رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«كف العفريت».. معديات نيلية غير آمنة تنقل الركاب إلى وجهتم أو الآخرة

معديات نيلية
معديات نيلية

سمر مدحت- سالي رطب- سمر محمدين- كمال عبد الرحمن- ميرفت فهمي

مراكب أهلكها الزمن بعضها بدائي الصنع والآخر تكونت أجزاؤه من مخلفات هيئة الملاحة، تحمل على متنها صفوفًا متراصة من أهالي انتظرته للعبور بين ضفتي النيل، فتلك هي وسيلتهم الوحيدة للوصول إلى مقاصدهم، ومعاشهم، حاملين على أعناقهم أخطار هذه الرحلة، فقد يشملهم الله بعنايته فتمر ذات المخاطر بسلام، أو يعاندهم الحظ فيلاقوا مصير مفقودي معدية البحيرة التي غرقت منذ أيام بقرية دمشلي وكان على متنها سيارتين، ليسقطا بالنهر، وينجح الأهالي في انتشال 3 أشخاص وإنقاذهم، بينما لا يزال هناك 7 أشخاص ما زالوا في عداد المفقودين إلى الآن.

خاضت "الدستور" جولة ضمت عددًا من المعديات في 5 محافظات مختلفة، رصدت فيها غياب احتياطات الأمان واشتراطات السلامة في المعديات، وغياب الصيانة والتفتيش الدوري.

• معدية الوراق.. لا طفايات حريق أو أطواق نجاة والسائق: "صاحبي بياخد باله من العيال الصغيرة"

مركب حديدية تشق مياه النيل ببطء، متكئة على أسوارها النحاسية المتهالكة لتصل إلى مرسى أكثر تهالكًا يربطها صاحبها في أحد الأعمدة بجبل غليظ. الحشود على الأرصفة تسرع نحوها في تدافع شديد من الجميع كبار وصغار، كُل يأخذ مجلسه، ومن لا يجد مجلسًا يقف مستندًا على الأسوار وتسير المركب.

مشهد متكرر يوميًا في منطقة وراق الحضر بمحافظة الجيزة، والتي تحتضن واحدة من أكبر الجزر بها وهي جزيرة الوراق. منذ زمن بعيد لا يعرف أهالي الجزيرة وسيلة مواصلات سوى تلك المعدية والتي تنقلهم من عالمهم الخاص إلى بدايات يومهم الشاق.

بمجرد أن تطأ قدمك تلك المعدية تشعر كأنها ستغوص بكل ركابها والذين تخطى عددهم المئات. لا أمان هنا فالأسوار متهالكة وقصيرة، والمعدية تعمل بشكل يدوي ولا يوجد حارس بها ينتبه إلى الأطفال الذين اعتلوا السور دون أن يدري أحد بهم.

حاولنا معرفة رحلة تلك المعدية التي يسميها راكبيها "معدية الموت"، فأدعت محررة "الدستور" في حديثها مع سائق المركب وصاحبها، أنها لديها أخ يريد شراء واحدة من تلك المراكب للعمل عليها إلا أنه ليس لديه أوراق شخصية يستخرج بها رخصة.

في البداية أكد صاحب المركب أن الأمر صعب للغاية، فتكلفة المركب تتخطى النصف مليون جنيه إلى جانب المعدات والأوراق التي يتم استخراجها مرة واحدة فقط، موضحًا أنه ابتاع مركبه بالشراكة مع أصدقاء له من هيئة الملاحة.

"مش لازم ورق رسمي في كل خطوة هيحتاج في البداية بس" يقولها صاحب المركب، مؤكدًا أن التراخيص تخرج من الهيئة وليس كل المراكب مرخصة هناك من ورث المهنة والمركب عن والديه ويعمل بها.

أما عن اشتراطات الأمان قال: "أنا شغال هنا وصاحبي معايا، أنا بسوق وهو بياخد باله لو فيه طفل أو حاجة".. تلك هي معايير الأمان لدى صاحب معدية الوراق.

لا يوجد على المركب طفاية حريق أو أسوار عالية، وطوال الرحلة كان يجلس صاحب المركب والسائق مع عدد من أصدقائه داخل كابينة القيادة دون أن يلتفت أحد إلى الأطفال الذين اعتلوا السور.

يكمل السائق حديثه: "التفتيش هنا مش دوري مرة كل كام شهر مثلا، وممكن ميحتاجش رخصة سواقة هو ييجي ويتعلمها من حد مننا بس لو مرة اتقفش هيتقبض عليه".

• فاطمة: مضطرون لركوبها
لا تستطيع فاطمة مرافقة أطفالها كل يوم من إلي المدرسة فتجعلهم يركبون المعدية بمفردهم: "بنودي كلنا عيالنا المدراس وبيركبوها لأن مفيش حل تاني وبنخليها على الله، وأصحاب المراكب سكان وجيرانا فبنوصيهم على ولادنا، وياريت يكون فيه أتوبيس نهري عشان الأطفال".

• سمير: عائلات تحتل العمل بالمراكب
سمير حسن، ساكن بالجزيرة ويعمل بمهنة الفلاحة بها، يقول إن أصحاب المراكب اشتروها من خلال مزاد تعقده هيئة الملاحة، ويتبعون نظام العائلات: "يعني كل عيلة تشترك في مركب واحد يسوق والتاني يلم الأجرة والتالت يركب الناس، ومش بيقبلوا حد يجي من بره أبًدا يشاركهم في المركب".

يوضح أنه من الضروري أن يكون لكل سائق معدية رخصة بصلاحية المركب، ومطابقتها بالاشتراطات الأمنية، ورخصة للقيادة في النيل لكن ذلك لا يحدث في بعض الأحيان.

أما عبدالرازق حسن أحد أهالي المنطقة أيضًا يوضح أن عددا من وقائع الموت حدثت على متن هذه المعدية منذ سنوات قائلًا: "ده بتحصل كتير، مرة مركب كان فيها عمال وغرقت بيهم، ومرة تانية كانت محملة عربية وحمولة زيادة ووقعت الناحية التانية، وأطفال بتقع وتغرق منها دايمًا عشان السور صغير وصاحب المركب بيعتمد على أن عينه عليهم لكنهم بيموتوا في الآخر".

وقالت أمينة علي: "نفسنا في أتوبيس نهري يحمينها ويحمي أولادنا لأن المعدية هنا مش أمان خالص بس محدش بيسمع"، مؤكدة أن حادثا وقع قبل شهور حيث غرق طفل ولم يستطع ذويه فعل شيء تجاه المركب.

وتضيف: "محدش قدر يعمل حاجة لأن المراكب دي غير مرخصة واللي عليها مش سواقين دول أهالي من الجزيرة، ومفيش تفتيش من المسطحات المائية عليهم الكل بيسترزق وطول ما مفيش بديل هنفضل نركبها".

• معدية دمنهور- شبرا الخيمة
بأرض أحاطت بها القمامة من كل مكان وقفت أعداد غفيرة من الأفراد في انتظار المعدية أو كما يطلقون عليها "الباجور" لم تمر سوى خمس دقائق ووقفت المعدية ملتصقة بحاجز حديدي يسمح للركاب بالنزول من المعدية إلى الأرض.

هبط من المعدية رجلًا يبدو في الخمسين من عمره ممسكًا بحبل سميك، وقام بربطه في عمود حديدي في الأرض حتى تظل المعدية ثابتة.

وداخل المعدية الواضح من بنيانها الحديدي قِدمها، تحدثت "الدستور" مع بعض الركاب.

السيد محمد في الستين من عمره، قال إن المعدية هي الرابط الوحيد بين دمنهور والوراق ومنذ الصغر اتنقل عبر المعديات التي تغيرت كثيرا عن الماضي، موضحًا أنه بالماضي كانت المعديات عبارة عن مراكب خشبية ذات شراع طويل لكن الآن أصبحت علبة من الصفيح.

المعدية من الداخل بالفعل كانت عبارة عن أرضية وسقف من الصفيح المتهالك وبعرضها تراصت أجزاء أخرى من الصفيح يجلس عليها الركاب الذين وصلوا إلي ما يقرب من 150 راكبا في مساحة لا تتعدي 30 مترا، تتوسط المعدية دائرة مفرغة من الصفيح يتصاعد منها دخان حرق الجاز الذي تعمل به هذه المعديات.

استكمل السيد محمد حديثه وسط الضوضاء الناتجة من الموتور المتوسط سطح المعدية قائلا: "المعديات مش دايما أمان لكن مفيش قدامنا غيرها، أحيانا وأنا في طريقي للمنزل عبر المعدية أجد طفلا لم يتجاوز العاشرة من عمره يقود المعدية".

وتابع: "رغم أن هذه المعدية متهالكة إلا أنه لم تقع فيها حوادث غرق منذ ما يقرب من 6 سنوات بعد غرق طفل وسقوط سيارة نقل كانت تقلها المعدية لنقلها للبر الآخر".

• جزيرة الوراق
داخل معدية الوراق مر شخصان في الأربعين من عمرهما لتحصيل الأجرة كان بينهما السيد محمد حسين، الذي أوضح أن كثيرًا من أبناء الوراق يعملون بمهنة قيادة المعديات، وورثوها عن آبائهم.

أما بسؤاله عن وجود تراخيص لسائقي هذه المعديات قال إن جميع المعديات المسئولة عن نقل سكان الوراق في جميع اتجاهاتها يملكها أشخاص ولكنهم يحصلوا علي الرخصة من هيئة الملاحة النهرية وأحيانًا يمر تفتيش من الملاحة عليها ولكن ليس بصفة دائمة.

وقال أحد المنتظرين أمام مرسى الوراق، وهو محمد عبدالله رجلًا خمسينيًا: "الباجور رايح جاي طول الليل والنهار ومعاه معدية أخرى تنقل البضائع الثقيلة والمركبات ومعها أيضا ركاب عاديين"، وأضاف "نفسي في يوم ألاقي معدية تابعة للمحافظة وتكون نظيفة وجديدة لكن هذه المعديات قديمة ومتهالكة".

انتظرنا على مرسى الوراق قدوم المعدية المخصصة لنقل السيارات والبضائع والتي كانت عبارة عن أرض من الصفيح الذي أكله الصدأ لم تكن تحيطها الجدران مثل معدية الركاب يتوسطها أيضا موتور يعمل بالجاز وتراصت بجانبه "جراكن" بلاستيكية تحوي مزيدًا من الجاز.

• معدية "المعصرة".. غرق سيارة بركابها
على امتداد طريق صخري متعرجً وقفت في صمت غامض معدية المعصرة بأجزائها الحديدية، وقد طالها التهالك والتآكل ونهش من هيكلها، لتصير صورتها ملائمة شديد الملائمة لمشهد هذا الحطام من حولها، وكأنها معزوفة كاملة، تنذر بنذير كارثي قريب لا محال وقوعه.

أما على الرصيف المتعرج الذي ترسو أمامه تلك المعدية الغامضة الصمت، اصطف عشرات الأهالي ليتدافعوا إليها كبارًا وصغارًا أملًا في وصول كل منهم إلى مقصده، الذي استقلها من أجله، والذي ينتهي بالجميع إلى مدينة الحوامدية المرسى الآخر لتلك المعدية.

المشهد مخيف فالجميع بوقت واحد يتزاحم ويتسابق للركوب، لا نظام بحركتهم، ولا تمهيد لطريقة صعودهم إلى هذا العابر بهم في مياة النيل المخيفة، التي ابتلعت كثيرًا من الضحايا بجوفها، فخطوة واحدة غير مقصودة من أحدهم كفيلة أن تجعل مياه النيل تجرفه بعيدًا دون أن تعطيه أملُا في العودة منها مرة أخرى.

"عارفين إن حوادث كثير حصلت هنا، بس مفيش بإيدينا حيلة مضطرين نركبها"، تلك أقوال محمد عزيز أحد أهالي منطقة المعصرة الذي اعتاد الذهاب يوميًا إلى عمله مستقلًا هذه المعدية، واصفًا شعوره بأنه يخيل إليه في كل مرة يركبها أنه سيهوى من إحدى جانبيها ليسقط بمياه النيل، متذكرًا تلك الحادثة التي كان شاهدًا عيان عليها وقتها، والذي سقطت فيه سيارة كانت تحملها هذه المعدية بمياه النيل، لتغرق ويغرق معها جميع الركاب داخلها وهم 4 من الشباب.

"بخاف أكثر من المعديات الصغيرة، لأنها تحَمل أعدادا كبيرة في مساحة صغيرة، ممكن يقعوا في أي وقت"، يقولها محمد موضحًا أحد الأسباب التي تزيد من حوادث سقوط الأفراد من المعديات، وهي ضيق مساحتها، مضيفًا أن هناك سببًا آخر يعد من أخطر ما يهدد من يركب المعدية، وهو عدم توافر الصيانة الدورية، والذي يظهر للراكب بشكل جلي في الأجزاء المتهالكة للمعديات، موضحًا أن هناك من تلك المعديات ما يزيد عمرها علي ثلاثين عامًا، وجود النظام عليها وركوب الجميع بشكل عشوائي مما يجعل أطفالًا أو كبارًا أيضًا من الوارد سقوطهم بأي لحظة في مياه النيل".

بينما يرى رمضان محمد وهو أحد أهالي المعصرة أيضًا، والذي يسكن بجوار المعدية أن الحمولة الزائدة، وعدم الصيانة للمعديات، والتي تظهر جلية على جميع أجزائها بشكل واضح للجميع، بالإضافة إلى عدم تمهيد الطريق أمام الأهالي لصعودهم ونزولهم منها، وإليها، تلك هي أهم الأسباب التي تؤدي إلى وقوع الكوارث الخاصة بالمعديات.

فيروي عن واقعة شهدها بعينه وشارك بها، وقت أن سقط شابان إلى مياه النيل عند صعودهما إلى المركب، بسبب الطريق غير الممهد أمامها، ليسرع إلى إنقاذ أحدهم وينجح في ذلك بعد معاناة، بينما يفشل في إنقاذ الآخر بعد أن جرفته مياه النهر.

وكان قد أعلن اللواء هشام آمنة محافظ البحيرة بتصريح سابق عن قيام لجنة من الهيئة العامة للنقل النهري (الإدارة العامة للرقابة النهرية) ومديرية الطرق والنقل بالمحافظة (الملاحة النهرية) بالمرور على كافة الوحدات النهرية بنطاق المحافظة؛ للتأكد من استيفائها لشروط منح الترخيص وقواعد السلامة والأمان وكذلك عمل حصر لكافة الوحدات غير المرخصة والمنتهية تراخيصها للحفاظ على أرواح مستخدمي هذه الوحدات.

الأستاذ أشرف الجزار الخبير بالمعهد الإقليمي للنقل النهري النقل النهري يوضح لـ"الدستور"، أن للمعدية شروط يجب الالتزام بها من قبل السائق، والتي يتمثل أهمها في الالتزام بالحمولة المحددة وعدم تعديها، وهو ما يتبعه أكثر سائقي المعديات النهرية، طمعًا في الحصول على مبالغ أكثر من خلال جمع أجرة عدد من المواطنين أكثر عن الحمولة التي تتحملها المعدية، حتى لو كان هذا يأتي على حساب آمن المعدية وسلامة الركاب.

كما أكد الجزار أن التزام سائق المعديات يعد هو كلمة السر في التقليل من حوادثها المتكررة، مشيرًا إلى أن هناك رقابة على المعديات من قبل الهيئة، وكذلك أثناء تجديد ترخيصها كل ثلاث سنوات، إلا أن عدم التزام السائق يعد السبب الأكثر خطورة لتعرض المعديات لأخطار الغرق.

كما أشار إلى ضرورة الالتزام بقواعد السلامة داخل المعدية، والتي تحددها الهيئة العامة للنقل النهري لجميع السفن والمراكب.