رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملك الأغنية الشعبية يروى«3»: «وهيبة».. وش السعد بتوقيع الأبنودى

الأبنودى
الأبنودى

بعد موال أدهم، الدنيا بدأت تنادى لى، كل يوم خبر فى جريدة، موضوع فى مجلة، جدل حول أدهم: أسطورة، ولا حقيقة، بطل ولا شقى...؟ وأنا حاضر فى كل هذا الكلام.. خلاص لقيت نفسى، شعرت بأن بداخلى طاقة هائلة، رغبة فى تعويض ما فاتنى، فى نفس الوقت كان فيه واحد قاعد بيراقب كل هذا الجدل، واحد اسمه عبدالرحمن الأبنودى اللى هيكسر الدنيا بعد كده بشِعره، كان الأبنودى يشق طريقه فى القاهرة، جاء من الصعيد، وكل واحد أقابله يقول لى: الأبنودى بيسأل عليك، الأبنودى بيدور عليك.. ومر يوم ورا يوم حتى التقينا على ما أتذكر فى مقهى بشارع محمد على، واتكلمنا.
سألنى فجأة: إنت عايز إيه من الأغنية؟
سرحت.. تذكرت عبدالحليم حافظ وهو بيقول: «أنا مش شبه حد، أنا لون». وتذكرت كلمات الشجاعى: «أنا عندى صنف اسمه عبدالعزيز محمود، وصنف اسمه محمد عبدالمطلب، وصنف اسمه عبدالغنى السيد، ومش مستعد أبيع صنفين عبدالمطلب، وبطل تتأفّف زى عبدالمطلب».
حكيت للأبنودى الكلام ده، ضحك من قلبه، وضحكت من قلبى، قال لى: أنا بعد ما سمعت «أدهم الشرقاوى»، تأكدت أنك الوحيد اللى عندك القدرة تغنى أشعارى.
كانت كلماته دليلًا على ذكائه الصعيدى، والدليل أنه بيكتب شعرًا غنائيًا مش علشان أى واحد يغنّيه، هو عارف كلمته تبقى إيه، ومين الصوت اللى يغنّيها بصدق، ومين اللى الناس تصدقه لما يغنّيها.
تكلم الأبنودى عن حاجات كتير، عن أحلامه الكبيرة للأغنية.. نبّهنى: خلى بالك المرحلة دى بتاعتك أكتر من عبدالحليم، قرارات يوليو الاشتراكية محتاجة أغنية فيها بُعد اجتماعى، أغنية فيها الفلاح والعامل البسيط والفقير، أغنية تتكلم عن مشاعرهم وعواطفهم، وأنت اللى مؤهّل للدور ده، فيك حاجة تخلّى الناس الغلابة تصدّقك.
كلّمنى الأبنودى بصوتى، كأنى كنت أتكلم مع نفسى، هو كان عارف، شايف كويس، عنده نبوءة الشعراء، وأنا كان عندى طاقة جبارة، عندى حلم مؤجل، كان عنده حاجة مختلفة غير الموجودين على الساحة، وأنا فى نفس الوقت كنت محتاج كلامه، ورغم إنى أكبر منه فى السن، لكنّ ثقافته وموهبته كانت حالة نادرة، تجبر أى واحد عايز يكبر فى قيمته على الارتباط به، الجلسة دى بشّرتنى بالخير، أكدت لى فهمه الكبير لأوجاع بلده، وغرقه فى بيئته الصعيدية، وأنا فلاح من دسوق وعارف يعنى إيه واحد يرتبط ببيئته.. أى قضية كنا نتكلم فيها يكون فيها أثر من بيئته فى الصعيد.
مصر عاشت على نوعين من الغناء: غناء فى الحوارى والغيطان، وغناء الصالونات الموجّه إلى فئة معينة، وهذا النوع كان هو «الرسمى»، وسيد درويش استثناء لأنه غنَّى وهو عارف بيغنّى لمين، وجاء الأبنودى ليجعل غناء الحوارى والغيطان على كل لسان.
كانت «وهيبة» وش السعد، الباب اللى اتفتح لى، وضعتنى على السكة اللى ربطتنى بالناس، أنا كان جوايا حاجة مستنية حد يطلعها، وعملها الأبنودى معايا، كلمات الأغنية كانت فتحًا جديدًا فى الشعر الغنائى، كلمات جديدة، لغة جديدة، رائحة جديدة:
«تحت السّجر يا وهيبة.. يا ما كلنا برتقان
كحلة عينك يا وهيبة.. جارحة قلوب الجدعان
الليل بينعِس على البيوت وعلى الغيطان
والبدر يهمس للسنابل والعيدان
يا عيونك النايمين ومش سائلين
وعيون ولاد كل البلد صاحيين
تحت السّجر واقفة بتدعك بإيديها برتقانة ولا ده قلبى
قلبى طرح نوّر فرح لما رأيت رمشك سرح
كحلة عينك يا وهيبة.. جارحة قلوب الجدعان
يا عايقة إنتى يا نجمة الصبحية
خلخال برنّه يرقّص الجلابية
والعُقد غلّى كهرمانية
والطرحة بالترتر ملاليه
تحت السّجر واقفة بتدعك بإيديها برتقانة ولا ده قلبى
قلبى طرح نوّر فرح لما رأيت رمشك سرح
كحلة عينك يا وهيبة.. جارحة قلوب الجدعان
تحت السّجر.. طلّ القمر يا لالالى
شافنى حزين ميّل عليّا وقالى
عين الجميل منك بقى اتهنى
تحت السجر راح تضحك الجنة
تحت السجر واقفة بتدعك بإيديها برتقانة ولا ده قلبى
قلبى طرح نوّر فرح لما رأيت رمشك سرح
كحلة عينك يا وهيبة.. جارحة قلوب الجدعان».
وجد الفلاحون فى القرى والكفور والنجوع أنفسهم فى هذه الكلمات، أغنية عبارة عن قصة بتحصل كل يوم فى أى قرية، لكن الأبنودى ومافيش غيره هو يحكيها بطريقته.. «برتقانة، بتدعك، بينعس، خلخال»، كلمات الفلاحين اللى على أصل، هو ده لسانهم الحقيقى.. لسانهم اللى كان بينطق حرف السين بدلًا من الشين فى كلمة «السّجر»..الفلاح لسانه متعود يقول «سجرة» مش «شجرة».. هو ده الأبنودى اللى بيلقط الكلام بملقاطه هو.. الأبنودى حوّل «وهيبة» لرمز لكل فتاة ريفية جميلة، وجعل الشاب الريفى يتغزل فيها بكلمات عفيفة. عمل ثورة فى لغة الحب، لغة كسّرت القيود التقليدية، لغة عفيفة جذابة.