رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: جهاد رمضان بالبوظة والحشيش

محمود خليل
محمود خليل

مثّلت الحركة الوهابية موضوعًا من الموضوعات التى شغلت أهالى المحروسة منذ العام ١٢١٧ هجرية، والذى وافق عام ١٨٠٢ ميلادية، أى بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر. ويسجل الجبرتى فى تاريخه أن الأخبار بدأت تترادف مع مطلع شهر المحرم من عام ١٢١٧هـ بأمر عبدالوهاب وظهور شأنه من مدة ٣ سنوات، أى على وجه التقريب منذ دخول الحملة الفرنسية إلى مصر، وأن كثيرًا من القبائل العربية دخلت فى عقيدته، وأنه بث دعاته فى أقاليم الأرض، ويزعم أنه يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله، ويأمر بترك البدع التى ارتكبها الناس ومشوا عليها إلى غير ذلك. ومنذ العام ١٨١١ ميلادية كانت مشاهد الجنود التى يبعث بها الوالى محمد على لمحاربة الوهابيين من المشاهد المعتادة لدى الأهالى. وكان قوام هذه القوات من الأرناؤوط والدلاة والعربان والمغاربة وغيرهم. وقد مثلت مذبحة المماليك العامل الأهم فى خلق اهتمام أهل المحروسة بمسألة القوات المصرية المتدفقة إلى الحجاز ونجد. فقد اختار محمد على يوم الاحتفال بذهاب القوات المصرية- بقيادة نجله طوسون باشا- لأول مرة إلى هناك مسرحًا لتنفيذ مذبحته الشهيرة فى المماليك عام ١٨١١. وهى الحادثة التى أفزعت الأهالى وشغلتهم لعدة أيام، وتمكن فيها محمد على من رقاب ما يزيد على ألف من المماليك الذين يعيشون بين الأهالى. وكانت وقائع قطف رءوسهم ونهب بيوتهم موضوع الحديث الأساسى للناس لعدة أيام. نالت قوات طوسون باشا هزائم متتالية على يد الوهابيين وحققت تقدمًا محدودًا فى بعض الأحوال. وقد كان عام ١٨١٣ الأشد خسارة لقوات طوسون، فسقط من بينهم آلاف القتلى، الأمر الذى دفع محمد على إلى رفده بقوات جديدة لحسم الصراع العسكرى مع الوهابيين. لذلك فقد احتشد عام ١٨١٤ ميلادية بالعديد من المشاهد التى عاينها الأهالى للقوات المتدفقة إلى نجد والحجاز، كان أشهرها ذلك المشهد الذى احتضنه يوم العاشر من رمضان من العام الهجرى ١٢٢٩ «١٨١٤م».
أكثر ما يوغر صدر أهالى المحروسة الصائمين أن يشاهدوا شخصًا يجاهر بالإفطار فى رمضان. وما أشق إحساس الصائم المدخن وهو يرى مفطرًا يمسك بالقصبة والشبك «أدوات التدخين فى ذلك العصر» ويشد منها الأنفاس بمتعة وتلذذ. رأى «الجبرتى» أن مثل هذه المواقف جديرة بالتسجيل فى تاريخه. فى يوم ١٠ رمضان من ذلك العام ظهرت مجموعة من العساكر العربان والمغاربة يضربون بخيامهم فى واحدة من أكثر البقاع ازدحامًا فى قاهرة المعز بالقرب من «باب الفتوح»، تمهيدًا للسفر للمشاركة فى حرب الحجاز. الأهالى بطبيعتهم يحبون الفرجة، فما بالك إذا وجدوا ما يغريهم بها وهم صائمون باحثون عن أى مادة للتسلية. وقد وجدوا بغيتهم فى العساكر. فقد شرع هؤلاء يأكلون ويشربون جهارًا نهارًا فى رمضان، وأنشأوا يتجولون فى الأسواق ويجلسون على المصاطب وبأيديهم الأقصاب والشبكات التى يشربون فيها الدخان ويشدون منها الأنفاس. لم يكتف المغاربة والعربان بذلك، بل أخذوا يتسكعون فى حارات الحسينية بحثًا عن مقهى مفتوح. وقد جرت عادة المصريين على إغلاق المقاهى فى نهار رمضان، لم يعجب الأمر القوات الذاهبة إلى الحجاز فقهروا «القهوجية» على فتح المقاهى وغلى القهوة وجلسوا يشربون. ليس ذلك وفقط، فالجبرتى يحكى أن العربان والمغاربة أحضروا مجموعة من النساء الخواطى والبغايا ونصبوا لهن خيامًا، وانضم إليهم بياعو البوظة والعرقى والحشاشون والغوازى.
أحس الأهالى الصائمون أن المنطقة المقابلة لباب الفتوح وكذا حوارى الحسينية تحولت إلى «كرخانة» فى نهار رمضان، فحاول بعضهم الاعتراض على ما يحدث، فرد عليهم العساكر بحسم: «نحن مسافرون مجاهدون». ولم يكن بمقدور الأهالى الإطالة فى الجدل أكثر من ذلك، وإلا نالهم ما لا يحبون، فقنعوا بالرد وانسحبوا ولسان حالهم يتساءل عن ذلك النوع الجديد من الجهاد بـ«البوظة والحشيش».