رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسائل إلى أمي في عيدها

عيد الام
عيد الام

أمي لم أكتب إليكِ اليوم لأعترف بفضلك لأن فضلك عليَّ كفضل الشمس على الكون لا يمكن إنكاره، لكنني أتحدث اليوم عن علاقتنا التي تغيرت مع الزمن فنظرتي لك حين كنت طفلة اختلفت كثيرًا عن نظرتي لك بعد أن أصبحت أمًا.

هناك الكثير من الأشياء التي تتغير فينا مع الزمن ولكن القيم التي غرستها في منذ نعومة أظافري ظلت صامدة رغم كل شئ، أعتقد أن أهم ما تعلمته منك أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وأن نتقي الله فهو يرانا ونحن لا نراه، هذا الإيمان بوجود الله ظل ملازمًا لي طوال حياتي.

أثناء طفولتي كنت أعتقد أن الله يمتلك نظارة "معظمة" يستطيع من خلالها أن يرانا كلنا في وقت واحد، كان هذا الأمر غامضًا ومحيرًا بالنسبة لي، وكنت أتخيل كلما نظرت إلى سقف غرفتي أن الله سبحانه وتعالى ينظر لي ويتابعني بنظراته فأحرج أن أفعل شيئًا خطأ، ربما يكون السبب في ذلك أنني من محبي قراءة القصص.

وكنت ألاحظ أنني إذا أهملت مذاكرة أحد الدروس يكون تركيز الامتحان عليه فكنت أعتبر ذلك عقابًا مباشرًا من الله على تقصيري في المذاكرة، ولا أدعي أنني لم أخطأ في حياتي فقد أخطأت كثيرًا أحيانًا عن جهل أو ضعف أو قلة حيلة، لكنني في جميع الأحوال كنت مؤمنة بأن الله يراني ولأنه سبحانه يعاقبني أولًا بأول فإنه يحبني ولا يريد أن أتمادى في الخطأ، كذلك كنت أرى أن الله يرعاني ولا يقبل أن يظلمني أحد حتى وإن لم استطع رد الظلم عن نفسي.

وأتذكر أنني حين كنت في التاسعة من عمري ضربني الأستاذ "أمين" مدرس الحساب أو "عزت" كما كانوا ينادونه بعصاه حتى تورمت يدي وأصبحت زرقاء تمامًا، لم أكن أفهم سبب ما فعله فقد كنت طالبة متفوقة، كل ما فعلته أنني رسمت بالقلم الرصاص في ظهر الكراسة لأنني كنت أشعر بالملل وكنا في حصة احتياطي ولم أكن أحب أن أتحدث مع زميلاتي خلال الحصص الدراسية، وكانت حصته هي الأخيرة ولما عدت إلى منزلي لم أحكي لوالدتي شيئًا فقد كنت على يقين أن الله سيعاقبه، فالله لا يرضى بالظلم، وقد دعوت الله في نفسي وقلت له: "يارب إذا كان قد تجبر على بقوته فأرني يارب فيه قدرتك"، كنت واثقة أن الله سيأخذ حقي فلا داعي لأن أشكو لأمي خاصة أن ذلك سيضايقها كثيرًا فهي لا تتحمل أن يؤذى أحد أولادها.

ورغم أني لم أكن أنوي إبلاغ أمي بما حدث لكنها عرفت بالصدفة فقد كان علي أن أغسل الأطباق بعد الغداء يوميًا بالتناوب مع أختي الكبرى لأن أمي عودتنا على تحمل المسئولية منذ الصغر ـــ كل على حسب قدرته ــــ وحاولت كالمعتاد غسل الأطباق لكن يداي المتورمتان أدت إلى انزلاق الطبق من يدي وكسر، فتضايقت والدتي بشدة وهمت أن تعاقبني فقلت لها: "يبدو أن كل الكبار ظالمون"، اندهشت أمي لأنها تعرف أنني لا أرد عليها ـــ في تلك السنوات لم يكن مسموحًا للأطفال بأن يردوا على والديهم إلا بكلمة حاضرـــ واندهشت أكثر لما لمحت لون يدي الزرقاء المتورمة فقالت لي: ماهذا؟ فاضطررت أن أحكي لها ما حدث، في صباح اليوم التالي ذهبت والدتي إلى الإدارة التعليمية وتقدمت بشكوى ضد المدرسة ومدرس الحساب وعلى إثرها نقل إلى بلدة ريفية عقوبة على ما فعل.

مرت الأيام ونسيت الأستاذ "أمين"، ثم تصادف أن أتى لزيارة مدرستي بعد مضي أكثر من عام على ما حدث فوجدته ينتفض عندما رآني كأنه رأى أمامه عفريتًا اندهشت وحزنت كثيرًا عندما رأيته يمشي متكئًا على عصا وعرفت من خلال حديث الأساتذة أنه بعد أن نقل من مدرستنا أصيب في حادث سيارة بشع جعله ملازمًا الفراش لعدة شهور وأنه يعتقد أنني دعوت الله عليه، ساعتها نظرت إلى السماء وأنا حزينة وقلت "يارب.. كنت أتمنى أن تنتقم منه ولكن ليس إلى هذه الدرجة"!

ولا أعرف لماذا لم تبرح تلك الحادثة رأسي رغم مرور سنوات كثيرة عليها، تقفز إلى ذهني كلما قرأت أو سمعت عن أحد الحوادث التي تعرض فيها طفل للأذى سواء من مدرس أو مدرسة أو والد أو والدة، وأقول في نفسي" لو علم الكبار مقدار تأثيرهم على الأطفال الذين يتعاملون معهم لانتبهوا واتقوا الله فيهم وكانوا أشد حرصًا على تصرفاتهم معهم خاصة وأن الله سيحاسبهم على ذلك يوم القيامة كما أن ذكريات الطفولة ـــــ سواء السعيدة أو الحزينة ـــ تظل عالقة في رؤؤسنا حتى وإن أصبحنا في نهاية العمر.

معذرة يا أمي شغلني سرد تلك القصة الطفولية عنك ولكنني أعود فأقول لك إنني لم أعرف مقدار حبك لي وتعبك في تربيتي وخوفك الزائد عليَّ إلا عندما أصبحت أمًا خاصة مع مجئ ابنتي "نورا" لأنها تشبه شخصيتي إلى حد ما مع تغييرات سببتها التكنولوجيا الحديثة وتطور الأجيال، فهمت يا أمي قلقك وخوفك الزائد إذا تأخرت ورغبتك في معرفة كل شئ يحدث لي خارج المنزل، ومن هم أصدقائي وزملائي؟
صحيح أنني كنت أخاف منك بشدة حين كنت طفلة وقد أثر عليَّ ذلك الخوف وأنا شابة، فلم أعتد أن أفضفض لك عما يدور في داخلي إذا توقعت أن ذلك ربما يضايقك، وكنت أجد في كتابة ما يجول بخاطري راحة نفسية لي وبمضي الوقت لم يكن بمقدوري استرسل معك في الحديث عن حياتي ونقاط ضعفي وقوتي كلها احتفظت بها لنفسي.. لكنني أعترف أن تعاليمك التي أخذتها منك في صغري كانت أشبه بالبوصلة التي ساعدتني كثيرًا في مسار حياتي وإن كنت محتاجة لك كصديقة بشكل أكبر لكنني الآن متعاطفة معك مقدرة أنك يا حبيبتي كنت تحملين همومًا كثيرة ومسئوليات كبيرة وأوجاع لم يكن باستطاعتنا أن نتحملها، وقد عشت حياة مليئة بالصعاب والتحديات لكنت كنت دومًا شامخة.

يعجبني كبريائك وعزة نفسك ورؤيتك الثاقبة للأمور والأشخاص وإن كنت أتمنى أن تهوني على نفسك، صحيح أنه كلما عرفت أكثر تعبت أكثر ولكن يا أمي تلك هي الحياة وهذه هي ضريبة المعرفة، وما أجمل أن نستمتع بالنسمات الباردة بعد التعرض للشمس المحرقة، وأن نستمتع بمجئ الليل بعد انقضاء النهار، ونستمع ببزوغ الفجر بعد رحيل الليل.. تلك هي الحياة يا أمي، فلا فرح يدوم ولا حزن يدوم.

أمي الحبيبة، أقدم لك اليوم في عيدك الكثير من زهور الامتنان والعرفان بجميلك وقيمتك التي تزداد عندي مع الزمن، وأرجو عن تسامحيني عما بدر مني من تقصير في حقك أو خطأ فأنت كنت وستظلين دومًا القلب الكبير الذي يحتوينا جميعًا.