رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملحمة «الزرايب».. الدستور ترصد مشاهد حية من «أرض السيل» فى حلوان

ضحايا عشش الزرايب
ضحايا عشش الزرايب

«مرحبًا بكم أنا هيزن أوديل، مُدرب أساليب بقاء».. تلك هى الجملة التى خطرت ببالى حينما رأيت آثار السيول، بعدما جرفت منطقة زرايب ١٥ مايو، بمدينة حلوان.
لمن لا يعرف «أساليب البقاء»، فهو برنامج يُذاع عبر قناة «ناشيونال جيوجرافيك»، مُتخصص فى عرض أهم أساليب البقاء التى تتبعها الشعوب التى تحيا بين البيئات «الأكثر فتكًا»، يُقدمه هيزن أوديل، مُرشد النجاة العالمى.
ليس هناك ما يمكن وصفه بعد الكارثة، فلا حائط يقف فى المشهد سوى أسوار كنيسة البابا شنودة الثالث، ولا أرض تطأها قدماك، كل ما ستراه هو بشر يتقافزون فوق الوحل محاولين تفادى البرك والأنقاض.. مشهد مأساوى فعلًا.
تلك المشاهد وغيرها يمكن مشاهدتها عبر مقاطع الفيديو التى انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعى مؤخرًا، لكن هناك مشاهد لن تصل إلى الناس إلا عبر شاهد عيان، أو عبر زيارة المنطقة.
لنستحضر الصورة سويًا.. المنطقة المنخفضة تحولت فجأة إلى فنجان تملأه مياه السيول، بعد أن جرفت المياه البيوت والسكان، ولم تبقَ إلا الكنيسة صامدة، فتحت أبوابها لاحتضان أبناء المنطقة، بناءً على تعليمات الأنبا بسنتى، أسقف المنطقة، الذى أمر بفتح أبواب كل كنائس الإيبارشية لإنقاذ الأهالى.
الكنيسة أم فى نظر الأقباط، هكذا يُعلمون النشء فى أشهر الترانيم «كنيستى هى أمى، هى بيتى، هى سر فرح حياتى»، مع الأخذ فى الاعتبار أن دورها كأم قد سبق دورها كبيت.
والأم مسئولة عن إطعام أبنائها، وهو ما رأيناه حينما خصص القس أثناسيوس رزق كل ركن فى الكنيسة للإيواء وتقديم الملابس والطعام، وتوزيعه على المُحتاجين بواسطة خُدام الكنيسة الذين تفرغوا لخدمة الله فى سكان المنطقة.
ولا نغفل أيضًا الإشادة بدور كنائس قطاع ١٥ مايو جميعًا، خاصة كنيسة السيدة العذراء مريم والقديس البابا أثناسيوس فى «مجاورة ٣٢»، التى على الرغم من تضررها الشديد إلا أنها فتحت كذلك أبوابها لإيواء عدد كبير من الأسر.
ورغم أنه منذ تفشى فيروس «كورونا»، ارتدت الغالبية الكمامات، وحملت فى حقائبها الصابون والمُطهرات خشية انتقال المرض إليها، كان الحب فى منطقة «زرايب ١٥ مايو» أقوى من حرص كل شخص على حياته الشخصية، فمئات الخُدام جاءوا بشكل غير منظم، يفكرون فقط فى إنقاذ المحتاجين، وغير مهتمين بالفيروسات.
«عماد» من بين خدام الكنيسة، كان يساعد الجميع، يتدخل لينقذ شخصًا دون أن يسأله عن ديانته، الطعام للجميع والحماية للجميع والملابس للجميع، لا انتماءات قبلية أو دينية، فقط الحب.. المياه كانت أعلى من الركبة، والحب كان أقوى من «كورونا».
تسابق الكثير من الخُدام على توصيل كراتين المياه المعدنية وعلب الطعام والبطاطين للمتضررين، ومع انقطاع الكهرباء لا شىء يدلك على طريقك إلا أصوات المحتاجين، ولا شىء يقيك مما تحمله المياه من جثث وأنقاض سوى الإيمان.
كان الخدام ينادون على بعضهم البعض ليتأكدوا من سلامة الجميع: «شباب الأنبا أنطونيوس أطلس».. «شباب العدرا الزيتووون».. «يا إيهاب.. يا عماد.. يا جوزيف.. يا جرجس».
إن كنت لم تدرك حتى الآن حجم المخاطر التى واجهت المنقذين فى هذا المشهد، فسوف أُحدثك عن حصان نافق بسبب السيول مر المتطوعون بجواره، عبارة عن نصفين، الأول تحول إلى هيكل عظمى بعد أن أكلته كلاب المنطقة، والآخر سليمًا، وقد لا يكون كذلك الآن.
شكرًا لراعى الكنيسة القس أثناسيوس رزق، الذى يتحمل حاليًا ما لا أستطيع أنا شخصيًا أن أتحمله ولا الكثير من دوائر معارفى.. شكرًا لوزيرة التضامن، نيفين القباج، ليس على الحضور للمنطقة فنحن أهلها، لكن لما سنراه من ثمار لهذه الزيارة واجتماعها بالقس أثناسيوس رزق عن قريب.
شكرًا للأنبا بسنتى الذى خلّف وراءه جيلًا كاملًا من الخدام، علمهم أن الكنائس هى بيت لكل من ليس له مأوى، وكذلك شكرًا لأبنائه الذين ورثوا عنه المحبة الحقيقية.
شكرًا لكل خادم تحمل عناء ومشقة الوصول لحافة المنطقة، وشكرًا لكل من غامر بالنزول إلى المنطقة، بدءًا من الآباء الكهنة والخدام الذين لن أذكر أسماءهم حرصًا على كنوزهم فى السماء.
لكنى سأشكر تلك الكنائس التى أخرجت لنا جيلًا يعى جيدًا معنى الخدمة بكنائس حلوان جميعًا، وعلى رأسها مطرانية السيدة العذراء، وكنائس الأنبا أنطونيوس بأطلس، ومار جرجس بشرق حلوان، والملاك ميخائيل بشارع جعفر، وأبى سيفين والآباء الرسل بالمشروع، إضافة إلى كنائس مايو مار مرقس، والبابا أثناسيوس.
وأشكر كذلك كنيسة العذراء فى الزيتون وخُدامها الذين تعاونوا معنا دون أن أعرف اسم أحدهم، وأخص بالشكر «برسوم» و«يوساب» من كنيسة السيدة العذراء بوادى حوف، و«سامح» الذى خلد لنا ملحمة الحب تلك، ولم يخشَ أن يخسر معدات التصوير خاصته.

.. وشهود عيان: المياه جرفت المنازل.. والماشية ماتت


استمعت نيابة مايو والتبين الجزئية، أمس، تحت إشراف المستشار أحمد ربيع، المحامى العام لنيابات حلوان الكلية، لأقوال شهود واقعة انهيار عشش منطقة الزرايب بمدينة ١٥ مايو، حيث أكدوا أن عددهم أكثر من ٢٠٠ أسرة، وأن السيول حملت فى طريقها بعض البيوت المكونة من الطوب والأخشاب ودمرتها.
وصرحت النيابة، أمس، بدفن ١١ جثة، ضحايا انهيار العشش، بينهم أطفال وسيدتان، وأمرت بتسليم الجثامين للأهالى لإنهاء مراسم الدفن، وكلفت النيابة الأجهزة الأمنية بحصر أعداد الجثث وتكليف الحماية المدنية بالبحث عن المفقودين.
وأوضح الشهود أنهم يقطنون فى منطقة مجرى السيل، ويوم الواقعة جرى فتح المجرى، ما زاد من اندفاع المياه نحوهم، وقالوا: «كنا نربى الأبقار والخنازير فى بيوتنا، وهذا هو مصدر رزقنا، إلى جانب قيام البعض بأعمال النظافة وتجميع القمامة واستخراج المواد لإعادة التدوير، ويوم الحادث فوجئنا بالمياه تدخل علينا من كل جانب.. الكثيرون حاولوا الهرب، ولم يتمكنوا من ذلك».
وأضافوا: «خسائرنا كبيرة بسبب الحيوانات النافقة نتيجة السيول.. شقا عمرنا راح.. وسنموت من الجوع وسيدخل البعض إلى السجون بسبب الديون».
وجاء فى مناظرة النيابة جثث الضحايا، التى جرى نقلها لمشرحة زينهم أنها توفيت نتيجة انهيار العشش عليها، صعقًا أو غرقًا أو بسبب الأنقاض، وأن الأطفال والسيدتين المتوفون من الذين يسكنون العشش.
وأكدت تحريات المباحث أن حالات الوفاة طبيعية بسبب سقوط الأمطار وتعرض العشش للسيول والرياح التى أدت إلى انهيارها.
وتستمع النيابة، حتى الآن، إلى أقوال الأهالى من الأسر المتضررة فى منطقة مجرى السيل.
وتلقت غرفة عمليات الحماية المدنية بلاغًا من شرطة النجدة يفيد بانهيار مجرى سيل على عدة عشش بمنطقة الزرايب بمدينة ١٥ مايو، فأمر اللواء أسامة فاروق، مساعد الوزير للحماية المدنية بالقاهرة، بدفع وحدات من قوات الإنقاذ إلى مكان الواقعة، وجرى فرض كردون أمنى بمحيط العقار المنهار لحماية سلامة السكان، وإخلاء السكان فى العقارات المجاورة، وتحرر محضر بالواقعة وتولت النيابة العامة التحقيق.