رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سوريا.. الارتباك والمؤامرة


وقف باراك أوباما على سلالم البيت الأبيض يلقى بيانه الخاص بالتحرك الأمريكى فى اتجاه سوريا، وبدا فى حديثه معنياً بشىء غريب ألا وهو الحديث الروتينى عن المسئولية الأخلاقية للمجتمع الدولى فى الحفاظ على حياة الأبرياء من تغول وبطش السلطات الحاكمة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية بكونها زعيمة هذه المنظومة الدولية فعليها التحرك وفق هذه المسؤلية الأخلاقية، كان تهافت هذا

الحديث وسط كل ما جرى خلال العامين الماضيين فى العالم وخصوصاً فى المنطقة العربية موضوع الحديث أول ملمح ارتباك وأفشل مقدمة يمكن من خلالها للأدارة الأمريكية أن تدخل لهذا الموضوع الشائك، واستمر الطرح يتخبط وسط أشكال متنوعة من الاهتزاز فالتوقيت غير جاهز وتركه مفتوحاً تحت ذريعة الترتيبات المتنوعه اختزل أهميته وجعل الظرف القهرى الذى يسوق له أوباما لا معنى له، وانتقل الرئيس الأمريكى لطرح قرار توجيه ضربة عسكرية ضد سوريا على الكونجرس فى أول جلسة انعقاد له وهى فى التاسع من سبتمبر ليلقى بالكرة فى ملعب جديد غير متوقع بالمرة، الدستور الأمريكى يعطى الكونجرس لا الرئيس صلاحية إعلان الحرب رسمياً لكن الرئيس كونه القائد العام للقوات المسلحة يمتلك صلاحيات استخدام القوة العسكرية فى كل من حالات تنفيذ المعاهدات الدولية والدفاع عن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة لحالات الطوارئ، ودوماً كانت هذه الصلاحيات مثار للشد والجذب بين الرؤساء الأمريكيين والكونجرس لكن الرؤساء السابقين فى قوتهم السياسية كانوا يتجاوزون هذا الأمر مثل بوش الأب فى حربه على العراق تحت ذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل وقام بعرض الأمر شكلياً على الكونجرس بعد دخوله الفعلى للحرب، كما استخدم بيل كلينتون هذا الحق فى حربه ضد كوسوفو تحت غطاء تهديد الوضع لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية فى أوروبا لذلك أثار عرض أوباما الأمر على الكونجرس فى هذا التوقيت موجة واسعة من الجدل، البعض فى الداخل الأمريكى فسر الأمر على كونه حرصاً من الرئيس الأمريكى لتجاوز هجوم متوقع من أغلبيته الجمهورية التى أشبعته نقداً فى المسألة المصرية، والمتلامسين مع الإدارة ومع الأطراف الأخرى لمحوا فى الأمر تراجعاً وارتباكاً تردد صداه فى أوروبا مباشرة .

فى حقيقة الأمر سبق الارتباك الأوروبى الارتباك الأمريكى بخطوات زمنية، وكان افتقاد المصداقية فى مسألة استعمال السلاح الكيميائى هو الذى جعل الرأى العام الأوروبى فى عمومه يتعامل مع الأمر كمؤامرة مصنوعة شاهدها من قبل فى الحالة العراقية ولم تتسرب من الأذهان بعد مشاهد انكشاف تلفيقها، ولهذا اختبأت معظم الدول الأوروبية تحت مظلة الناتو وتصرفت كل دولة على حدة بأنها ملتزمة بما هو واجب عليها تجاه الحلف دون التورط فى مواقف فردية صريحة مع أو ضد العمل العسكرى، واكتفى الأوروبيون بما مارسوه طوال العامين المنصرمين من عمر الأزمة بداية من رعاية المعارضة السورية التائهة بين دولهم فى مقابلات واستضافات، وحتى مؤتمر جنيف الذى كرس فيه العداء الصريح للنظام الرسمى السورى ومطالبته المباشرة بالرحيل قبل أى نوع من التسويات، وكان لمجرد رعاية مائدة يجلس عليها النظام الرسمى وممثلو المعارضة كطرفين متماثلين هو أقصى صور التآمر الممكن وأعنف ضرب لشرعية النظام أمام المجتمع الدولى، خاصة مع تلامس المسئولين الأوربيين والفرنسيين منهم على وجه الخصوص مع أجندة المعارضة التى تضع تقسيم الوطن السورى على رأس أولولياتها وتعمل على ذلك وترضى به وفق أى تسوية .

ومن الارتباك الأمريكى والأوروبى إلى المشهد العربى المبعثر والمختلط بشدة دخلت الأحداث لمناطق شائكة تزيد الأمر تعقيداً بأكثر مما هو قابل للخروج منه بسلام، فالموقف العربى بدا سجيناً للعداء الحاد ما بين أنظمة الخليج وبين النظام السورى الرسمى فجاء اجتماع وزراء الخارجية العرب فى مقر الجامعة العربية فى توقيت غريب، حيث ظهر التزامن غير المفهوم مع العزف الأمريكى واستباقاً حتى لورقة التوت المتمثلة فى تقرير المفتشين الدوليين الذين يبحثون فى قضية استخدام الكيماوى ضد المدنيين ومن المتسبب فيها، استدعى مشهد الاجتماع وإحالته الأمر للمجتمع الدولى صور الاعتداء على العراق ومن بعدها ليبيا وثار الشجن العربى الذى صار يشاهد أوطانه وهى تذبح بيد أنظمتها الرسمية، وكان هناك تجاهل لموقف الدول المتحفظة على العمل العسكرى وعدم توفير غطاء عربى معتاد للتدخل على الأراضى العربية ومورست ضغوط حادة فى السر والعلن على دول رئيسية تحدثت وعارضت، لم يكن مفهوماً تجاهل مخاوف دولة مثل العراق ذاقت ومازالت تعانى وهى تذكر بوضوح أن التدخل بعمل عسكرى يقسم سوريا مباشرة ومن ورائها العراق كعرض أولى لما يحدث، واتبعها فى تحفظها كل من الجزائر ولبنان ولكن تم تجاوز هذه الاعتراضات بصورة روتينية جعلت الأمر يبتعد عن أى مقترح لحلول أخرى .

وبقى الموقف المصرى والسعودى يثيران الكم الأكبر من اللغط فالسعودية هى من تقود الموقف العربى الأكثر تشدداً ضد النظام السورى وتسير فى هذا الطريق للمدى الأخير فيه، والسؤال حول كيف تترك سوريا تكاد تسقط فى يد إخوان سوريا نتيجة التدخل العسكرى الأمريكى وهى من أيدت إزاحتهم عن مصر منذ اللحظة الأولى بدت المفارقة غريبة وعصية على الفهم حتى الآن، حتى إجابة مراهنتها على تولى معارضة أخرى غير الإخوان للسلطة فى سوريا غير مضمونة بأى قدر مع التداعيات الحادة التى سيخلقها العمل العسكرى دون ريب، وبدت صورة وزير خارجية السعودية فى مؤتمره مع نظيره المصرى فى هذا المؤتمر وكأنه يسقط عن المملكة رداء الوطنية والشهامة التى وصفت بها وهى تدعم التحول فى مصر الذى أنتجته ثورة 30يونيو، وأصبح التساؤل مشروعا حول الدعم السعودى هل كان ثمناً مسبقاً لموقف مصرى سيأتى وقت استحقاقه فى الأزمة السورية، حتى وهو يتحدث عن التدخل لوقف نزيف الدماء السورى لم تكن المصداقية حاضرة بأى شكل فقد كان اليوم بإجماله بطعم السقوط العربى المتكرر .

أما مصر التى ترتبط بسوريا برباط أزلى وثيق فقد استغلت لحظة عدم اتزانها الناتجة عن عامين من المخاض الداخلى العميق، لتصبح اللحظة أفضل لحظات الإنقضاض على سوريا وتمزيقها الحتمى الذى هو أول أشكال المؤامرة بعيداً عن إزاحة نظام ومجىء نظام جديد، ويظل ما يحدث فى سوريا هو خصم حاد ومباشر من أى رصيد مصرى محتمل فى المنظور القريب وأبرز تحديات الأمن القومى المصرى، وتبدو الخطوة تمثل فى بعدها الإستراتيجى هى الخطوة الأخيرة قبل الدخول المباشر مع مصر وجه لوجه .