رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التلفيق والفبركة والانتحال معضلة تضرب الإبداع في مقتل

جريدة الدستور

تحولت الممارسات اللا اخلاقية لبعض الذين نسبوا أنفسهم لعالم الإبداع والكلمة إلى معضلة وتتضمن هذه الممارسات التي تجافي جوهر الإبداع وشرف الكلمة صورا متعددة من بينها "التلفيق والفبركة والانتحال والكذب".

وبعض الملفقين يحققون ثروات ومكاسب مادية كبيرة من ممارسات التلفيق والفبركة فيما يطرح البعض في الغرب السؤال:"هل بالوسع منح صكوك غفران لمن تورطوا في مثل هذه الممارسات"؟!.

وقد تأتي الإجابة عن هذا السؤال في كتب بأكملها او أفلام سينمائية فضلا عن طروحات ثقافية عميقة مثل ذلك الطرح الذي تناولت فيه الكاتبة والناقدة كاثرين هيوز هذه القضية الشائكة وهي تعلق على فيلم جديد ظهر على الشاشة الكبيرة بعنوان:" آلا يمكنك أبدا أن تغفر لي؟" وقامت ببطولته الممثلة وكاتبة السيناريو الأمريكية ميليسا مكارثي.

ويتناول الفيلم قصة احد المتورطين "او المتورطات" في تلك الممارسات وهي الكاتبة والمؤلفة الأمريكية "لي إسرائيل" التي قضت في نهاية عام 2014 وكانت قد عمدت في "عصر ما قبل الانترنت" لتلفيق او "فبركة" رسائل منسوبة لنجوم ومشاهير في عالم الكتابة بالغرب مثل نويل كوارد ودوروثي باركر.

وواقع الحال أن هذا الفيلم الجديد اعتمد على سيرة ذاتية كتبتها "لي إسرائيل" قبل رحيلها وهي التي ولدت في نهاية عام 1939 في حي بروكلين بنيويورك باسم "ليونور كارول" غير أنها اشتهرت ككاتبة باسم "لي إسرائيل" فيما تضمنت سيرتها الذاتية التي كتبتها بقلمها اعترافات بشأن تورطها في خطايا التلفيق وأقرت بأنها "ابتعدت عن أمانة الكلمة ونزاهة القصد وسقطت في مستنقع الفبركة من اجل المال".

وتطرح كاثرين هيوز السؤال:"هل حان الوقت لمنح صك غفران لـ"لي إسرائيل" وهي التي اعترفت بخطاياها قبل الرحيل"؟ فيما تسلم بأن سؤالها لا يسهل الإجابة عنه لأن ضحايا الممارسات اللا أخلاقية للي إسرائيل كانوا في قبورهم وهي تنسج الأكاذيب حولهم وتشوه الحقائق بصورة أساءت كثيرا لكثير من الأبرياء الذين لم يكن بمقدورهم الدفاع عن أنفسهم "لأن الموتى لا يتكلمون".

وإذا كانت لي إسرائيل قد جنت الكثير من المال بهذه الممارسات اللا أخلاقية في عالم الكلمة فإنها فقدت للأبد اعتبارها وتحولت لأمثولة لخيانة أمانة الكلمة مع أنها بالفعل كانت تمتلك قدرات تمكنها من ان تكون كاتبة كبيرة وان تعيش بالكلمة النزيهة في مستوى جيد بالمعايير المادية فيما يبقى سؤالها حول "الغفران" معلقا في محكمة الضمير وحكمة الأيام!.

والغريب أن الممارسات اللا أخلاقية في عالم الكلمة تتنوع بصورة مذهلة، وقد تتضمن أكاذيب يطلقها البعض حول أنفسهم مثلما فعل الكاتب الأمريكي دان مالوري صاحب رواية "المرأة في النافذة" التي احتلت مكانة متقدمة في قوائم أعلى مبيعات الكتب خلال العام الماضي.

فقد اعترف دان مالوري مؤخرا بأنه كان يكذب عندما قال إنه مصاب بالسرطان ليتحول الأمر إلى فضيحة فرضت نفسها على الصحف ووسائل الإعلام في الغرب فيما زعم بأنه لم يكذب للفوز بتعاطف الآخرين حسبما قال لمجلة "نيويوركر" التي تؤكد في المقابل "سجله الحافل بالأكاذيب".


وها هي المجلة الأمريكية المرموقة تثبت ان صاحب رواية "المرأة في النافذة" التي من المقرر أن تتحول الى فيلم سينمائي في هذا العام" كان كاذبا عندما ادعى من قبل أن والدته وشقيقه توفيا بسبب السرطان فيما حاول مالوري ان يدافع عن نفسه ليعلق أكاذيبه "على مشجب إصابته بنوع من الاكتئاب الحاد".

وفي خضم تداعيات الفضيحة الجديدة التي فجرتها مجلة "نيويوركر" الأمريكية "، أجرت صحيفة الجارديان البريطانية سلسلة اتصالات مع مصادر مقربة لدان مالوري اتفقت على انه كان يدخل في روع من يتعامل معه في عمله وأنشطته في الكتابة "بأنه يعمل وهو مصاب بسرطان في المخ" فيما درج هذا الكاتب على الكذب منذ سنوات طويلة واستهدفت شخصيات في دور النشر الكبرى للفوز بتعاطفها معه.

وليس ببعيد ما فعله صحفي في مجلة "دير شبيجل" الألمانية الشهيرة عندما عمد "لفبركة قصص صحفية حول أشخاص وهميين" وعندما انكشفت أكاذيبه تحول الأمر إلى فضيحة انفجرت في مطلع العام الحالي لتضع المجلة الكبيرة في مأزق ويجد هذا الصحفي نفسه مطرودا من"بلاط صاحبة الجلالة".

ويعيد ذلك للأذهان ما حدث منذ نحو خمس سنوات عندما وجد الكاتب والصحفى الشهير فريد زكريا مع محنة" ضبطه متلبسا بالانتحال" فيما كان هذا الكاتب الأمريكى والمنحدر من أصل هندى نموذجا "للكاتب النجم بمقاييس وسائل الإعلام او "الميديا الغربية ".

ومحنة هذا الكاتب الذى اعترف علانية بانتحاله مقاطع من طرح لكاتبة وأكاديمية أمريكية اقترنت بسلسلة من العقوبات السريعة رغم اعتذاره عما فعله وهى محنة تظهر الفارق الجوهرى بين خطيئة السطو على أفكار الآخرين او كلماتهم وعباراتهم دون اى إشارة لذلك وبين التفاعل والبحث الحميد الذى يتيح إمكانية عرض هذه الأفكار والكلمات مع الإشارة الصريحة والواضحة لصاحب الأفكار والكلمات.

وفريد زكريا الهندى الأصل يوصف بأنه من أشهر الكتاب والصحفيين الأمريكيين ودرس فى جامعتى يال وهارفارد وهو مؤلف لعدة كتب حققت مبيعات عالية كما انه كاتب ومحلل ومعلق "مطلوب" فى الصحافة المكتوبة والشبكات التلفزيونية.

وكان فريد زكريا قد رشح كمستشار للشؤون الخارجية للرئيس الأمريكى الأسبق باراك اوباما الذى يقال انه من المعجبين بكتاباته وطروحاته وتعليقاته بل ان تقارير كانت قد ذهبت الى ان زكريا الذى لم يشغل هذا المنصب قد ظهر اسمه في فترة ما كمرشح محتمل لشغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة.

وهكذا فان فريد زكريا يبدو انه صاحب طموحات سياسية لا صحفية فحسب بل ويوصف بأن آراءه تلقى كل الاهتمام فى أروقة صانعى القرارات السياسية الأمريكية على الأقل في فترتي إدارة باراك اوباما.

وكانت مجلة "تايم" الأمريكية المرموقة قد أعلنت في غمار اتهامات الانتحال لزكريا عن تعليق مقالاته بعد كشف سرقته لعمل كاتبة أخرى بأحد مقالاته فيما حذت شبكة "سى ان ان " التلفزيونية حذو التايم وقررت تعليق برنامجه الأسبوعي غير انه عاد بعد فترة للمجلة والشبكة التلفزيونية معا.

وبدأت القصة –حسبما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز-من خلال موقع "نيوز باسترز" الالكتروني الذى رصد تشابهات كبيرة بين مقال لفريد زكريا ومقال لكاتبة وأكاديمية أمريكية فيما لم تقصر المواقع المنتشرة على شبكة الانترنت فى نقل ماذكره هذا الموقع الاخبارى لتتحول القصة لفضيحة مدوية عبر الشبكة العنكبوتية.

واعتبر الكاتب والناقد الأمريكى ديفيد زوارويك ان " فريد زكريا يستحق العقاب الحاسم والسريع لأن الانتحال بات خطيئة مهلكة فى عالم الصحافة وكأنها لعنة لا خلاص منها" فيما اتخذ هذا الكاتب والناقد موقفا صارما حيال زكريا بقوله:"لا يعنينى ان كان الشخص الذى قام بالانتحال ذكيا او غبيا وإنما ما يهمنى ضرورة عقاب كل من يسطو على أفكار الآخرين او كلماتهم".

وشأنه شأن "لي إسرائيل" التي اعترفت بخطاياها" اعترف فريد زكريا بما اقترفه وقال:"كانوا على حق فقد ارتكبت خطأ جسيما وأتحمل وحدى المسؤولية كاملة واعتذر لأستاذة التاريخ جيل ليبور..اعتذر عن هذا الخطأ لمجلة تايم كما اعتذر لقرائى".

وتكشف نظرة للتعليقات على خبر وقوع فريد زكريا فى خطيئة الانتحال والتى نشرتها صحف ومواقع الكترونية على مدى سنوات عن شعور البعض بالمرارة حيال ما اعتبروه دورا تحريضيا لفريد زكريا فى الحرب الأمريكية على العراق فيما استعاد البعض فى العالم العربى وقائع سرقات أدبية وبحثية أكاديمية يندى لها الجبين واعتبر فريق أخر أن القضية أخلاقية فى المقام الأول.

وإذا كان الكاتب والناقد ديفيد زوارويك قد ذهب فى سياق فضيحة زكريا إلى أن الانتحال قد استشرى " فان قضية الانتحال فى الواقع قديمة وليست أبدا وليدة اليوم ثم أنها تشمل مجالات متعددة من بينها الموسيقى والرسائل الجامعية والأبحاث العلمية والأوراق الأكاديمية كما شهدت وتشهد قاعات المحاكم دعاوى واتهامات بالانتحال.

بل أن اتهامات الانتحال طالت شخصيات تاريخية فى قامة شاعر العربية الأكبر ابو الطيب المتنبي فضلا عن دانتي اليجري صاحب "الكوميديا الإلهية" والذي اتهم باقتباس هذا الأثر الأدبي الخالد في الغرب من "رسالة الغفران" للشاعر العربي الشهير أبو العلاء المعري.

وفي السنوات الأخيرة تحولت روايات شهيرة لكتاب في العالم العربي الى معارة ثقافية محتدمة وذروة جديدة في اتهامات "الانتحال والاقتباس" وذهب من يروج لتلك الاتهامات الى ان بعض الروايات الشهيرة في السنوات الأخيرة لكتاب في العالم العربي "منقولة عن روايات أجنبية بعضها يرجع لمنتصف القرن التاسع عشر".

و"الانتحال" او الاقتباس الكثيف والواسع النطاق دون ذكر اسم المصدر مشكلة ثقافية عربية وغربية فيما ويبدو أن "مسلسل الاتهام بالانتحال "قد يصيب مثقفين ومفكرين بارزين أحيانا بضرر لا يستطيعون دفعه او الرد على صاحب الاتهام لأنهم غادروا هذه الحياة الدنيا وانتقلوا للرفيق الأعلى منذ سنوات.

وإذا كان "مسلسل الانتحال متصل الحلقات" منذ زمن بعيد وطال أسماء كبيرة فى مجالات متعددة فى الغرب والشرق معا وإذا كانت شبكة الانترنت بما تحتويه من معلومات غزيرة وسريعة تسهل الانتحال كما يرى البعض فإنها فى الوقت ذاته تسهل فضح القائمين بالانتحال.

على اى حال كان الحكيم المصرى القديم أمنوبى محقا عندما قال فى تعاليم أسهمت فى بناء الضمير الانسانى منذ فجر التاريخ:"لا تستعمل قلمك فى الباطل..لا تغمس قلما فى المداد لتفعل ضررا.. ولا تؤلف لنفسك وثائق مزيفة".. ويبدو ان الحاجة ملحة للإنصات لصوت هذا الحكيم المصري القديم في وقت باتت فيه الممارسات اللا أخلاقية لبعض من ينسبون أنفسهم للإبداع وعالم الكلمة تضرب الإبداع والكلمة في مقتل!..محنة يالها من محنة !.