رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ميلاد المسيح وثقافة اللا عنف


فى هذه الأيام يحتفل العالم بذكرى ميلاد السيد المسيح رئيس السلام، فى ذات الوقت الذى فرضت فيه كلمات العنف والإرهاب نفسها بقوة فى الآونة الأخيرة، وأوجدت لنفسها مكانًا بارزًا فى قاموس حياتنا اليومية، كما أنها احتلت مساحات شاسعة فى كل وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية.
العنف فى عصرنا الحاضر أصبح مشكلة المشاكل، حيث إنه اتخذ لنفسه أشكالًا متعددة وصورًا مختلفة، وهذا ما يجعلنا نتساءل فى حسرة: أين السلام؟!، هل أصبح السلام حلمًا تلاشت معالمه مع نهار الحياة المؤلمة؟!، وهل أصبح لحنًا ضاع صداه وسط ضوضاء الحروب المزعجة؟!.
لقد أصبحت كلمة السلام اليوم فى عالم الخيال، وأصبح الناس ينظرون إلى السلام كما ينظرون إلى حلم جميل عذب صعب المنال، يتراءى فى أعماق الغيب، وصار كل شخص لا يذكر هذه الكلمة إلا وقلبه يتقطع من الحزن والأسى. فما أغزر الدموع التى تسيل مدرارًا، وما أكثر الدماء التى تسفك أنهارًا. فالدول من حولنا تحارب بعضها بعضًا والإنسان يقتل أخاه الإنسان، والقوى يريد أن يفتك بالضعيف والغنى يصم أذنيه عن سماع تأوهات الفقير. لقد فقد عالمنا هدوءه وسلامه، وأصبحنا نعيش فى شبه غابة موحشة يتصارع فيها المخلب والناب، غابة صار فيها البقاء للأقوى، وأضحت الاستمرارية للعنيف، ولكن هل بارحت حمامة السلام عالمنا إلى غير رجعة؟!، وهل طغت أبواق الحرب على موسيقى السلام؟!، وهل انهزم النور أمام طغيان الظلام؟، كلا، فإن الكلمة العليا للسلام لا للحرب، وإن الانتصار الختامى للنور لا للظلام. نعم إن هناك أملًا ورجاء متى أدرك الإنسان أن القوة الحقيقية تكمن فى التسامح والغفران لا فى التشفى والانتقام، وهذا ما جاء من أجله وعلمه وعمله السيد المسيح. فلقد ولد فى عصر كله حروب ومنازعات، ولكن يوم ميلاده أنشدت السماء أنشودة السلام، وفى كل حياته رفض السيد المسيح استخدام أسلوب العنف بكل أشكاله. فلقد جاء السيد المسيح إلى عالم كان العنف فيه وسيلة سياسية عادية للوصول إلى الأهداف، ولقد شهد القرن الأول فى فلسطين مهد السيد المسيح، الكثير من العنف، ولكن المسيح رفض اللجوء إلى الأساليب العنيفة فقد تبعته جماهير كثيرة، ومع أنه لم يكن محبوبًا من أصحاب السلطة، إلا أنه كان محبوبًا من رجل الشارع، ولو طلب المسيح من الجموع أن يتوجهوا إلى المعسكرات الرومانية فى أورشليم لمحاربتها، لما ترددوا فى أن يطيعوه، ولكن يسوع اختار طريق السلام، فهو لم يجد فى العنف طريقه لتغيير قلوب الناس. إننا نستطيع أن نغير الحدود الجغرافية بالعنف ويمكن أن نحصل على السلطة السياسية بالعنف، ويمكن أن نأخذ مالًا بالعنف، ولكن العنف لا يمكن أن يكسب ولاء القلوب، وهذا ما جاء المسيح ليفعله، فهو جاء ليملك قلوب الناس، ولما كان ملكوت الله روحيًا وليس جغرافيًا، فلم تكن هناك دوافع للحروب، لأن المحبة الحقيقية لا تجبر أحدًا على شىء. إن سبيل المسيح هو سبيل السلام الذى يأسر قلوب البشر وعقولهم بالمحبة، ونحن نحتفل بذكرى ميلاد السيد المسيح ما أحوج عالمنا لمراجعة نفسه؛ هل حقق له العنف ما أراد أم أنه يحتاج إلى أن يعود إلى تلك القيم والمبادئ التى أرساها المعلم الأعظم ليعم السلام قلوبنا وعقولنا؟، كم يحتاج العالم اليوم إلى نشر ثقافة التسامح والحب، وكم يحتاج إلى نبذ الضغينة والتعصب. فهل لنا أن نقوم بدورنا فنرسخ فى الوجدان والضمائر ثقافة اللاعنف؟!.