رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 سنة سادات «9».. التقيت جيهان لأول مرة فى السويس.. وإحسان عبدالقدوس منحنى عملًا بـ«دار الهلال»

جريدة الدستور

قضيت ٣١ شهرًا متواصلًا فى السجن.. وكان من الطبيعى أن أشعر كأنى قد ولدت لتوى فى عالم جديد لا أعرفه.. ولذلك كنت أقضى وقتى متنقلا بين البنسيون الرخيص الذى سمحت لى نقودى القليلة أن أقيم به، وبين الحديقة اليابانية حيث كنت أسترخى على أحد مقاعدها الخشبية أقرأ فى صحيفة أو كتاب بعيدًا عن الناس.. قانعًا بخلوتى.. أتأمل ما أنا فيه.. وما حدث.. وما قد تأتى به الأيام..
أذكر أننى بعد شهر تقريبًا من خروجى من السجن، ركبت سيارة أقودها بنفسى ورغم إتقانى القيادة فقد هالنى أن أجد أننى لم أكن أعرف كيف أسير فى شوارع القاهرة.. وانتهى بى الأمر إلى حادثة تحت نفق الجيزة.. هكذا قضيت أيامى فى حلوان أحاول التخلص من آثار السجن، وأحاول شفاء معدتى بمياهها المعدنية، إلى أن جاء يوم فوجئت فيه بزيارة زميلى وصديقى القديم حسن عزت الذى بحث عنى فى كل مكان إلى أن أهتدى إلى مقامى..
كنت أصلى الفجر عندما هبط علىّ.. وكانت نقودى قد نفدت تقريبًا ولم أكن أعرف ماذا أفعل بنفسى.
- ما الذى يقعدك هنا؟ قم معى- تعال..
قالها لى حسن عزت وهو يتأمل أثاث وجدران الحجرة البالية التى كنت أقطن بها..
قلت: إلى أين؟
وأجاب: إلى بيتى فى السويس- هيا بنا..
وارتديت ملابسى.. الجاكتة البيضاء والبنطلون الرمادى- نفس الملابس التى خرجت بها من السجن وكانت كل ما أملك، ولاحظ حسن عزت أن البنطلون قد بلى من الخلف، فقلت له ليس عندى غيره وحتى لو ذهبنا إلى بيت والدى ما وجدت بديلا عنه.
قبل أن نتوجه إلى السويس ذهبت مع حسن عزت إلى القاهرة، حيث اشترينا قمصان وفصلت بدلتين، وكانت هذه أول مرة أرى فيها الجوارب السوكيت التى يبدو أنها ظهرت وانتشرت فى الأسواق وأنا فى السجن- فأعجبتنى واشترى لى حسن عزت ثلاثة أزواج أو أربعة منها. وبعدها ركبت معه سيارة وذهبنا إلى السويس.
فى بيته هناك التقيت لأول مرة جيهان- زوجتى- حيث كانت فى زيارة لابنة عمتها زوجة حسن عزت- قضيت معهم بعض الأيام، تبينت خلالها أن حسن عزت لم يبحث عنى ويأتى بى إلى السويس لوجه الله.. فقد كان على خلاف مع شركائه فى عمليات تجارية بين مصر والسعودية عن طريق السويس- فأراد أن يخيفهم ببطل قضية أمين عثمان حديث كل المجلات والصحف.. الذى هو أنا طبعًا.. واشتركت معهم فعلا فى بعض الصفقات وكان نصيبى منها، كما علمت بعد ذلك، ١٨٠ جنيهًا من الذهب أعطانى منها حسن عزت ٦٠ جنيهًا وأخذ الباقى لنفسه، وكان الجنيه الذهب فى ذلك الوقت يساوى ستة جنيهات مصرية.. ولذلك عندما عدت إلى حلوان لأستأنف علاج معدتى.. وضعت المبلغ فى خزينة اللوكاندة حتى لا يسرق- وطبعًا لم يحدث هذا.. الذى حدث أن المبلغ صرف عن آخره على إقامتى بحلوان..
انتقلت بعد ذلك إلى بنسيون فى وسط البلد بالقاهرة، عاطلا بدون عمل، بينما تتراكم الديون علىّ يومًا بعد يوم.. فذهبت إلى إحسان عبدالقدوس وهو صديق قديم لى.. ليبحث لى عن عمل.. قصدنا جريدة الأهرام ولكن لم تكن بها مجالات للعمل- فاقترحت روزاليوسف ولكن إحسان قال إن روزا لا تتحملنا نحن الاثنين- وكان إحسان وقتها يعمل بروزاليوسف وبدار الهلال كمعيد للصياغة Rewriter وفى جريدة الزمان.. فى ثلاثة أماكن فى وقت واحد..
ولكن حدث أن استغنى إحسان عن عمله بدار الهلال، فأخذنى وقدمنى لأصحاب الدار.. الذين اشتروا منى مذكراتى التى كتبتها فى السجن وبدأوا نشرها.. ويبدو أنهم أرادوا اختبارى للتأكد من أن المذكرات بقلمى- فأتانى شكرى زيدان، أحد أصحاب دار الهلال- وأشار إلى جزء من المذكرات وقال إنه بحاجة إلى تطويل بما يساوى عمودًا ونصف، فقلت: بكل سرور.. قال إليك المكتب ولكن عليك أن تنتهى من الكتابة فى خلال ساعة ونصف الساعة، وهو الزمن الباقى على إغلاق المطبعة.
فعلت ما طلبه وسلمته إليه قبل الزمن المحدد.. فقرأه وشكرنى وانصرف.
لم يخامرنى أى شك فى أن هذا كان نوعًا من الاختبار.. إلى أن أرسل فى طلبى صباح اليوم التالى، وطلب منى أن أعمل معهم فى دار الهلال بصفة مستديمة، وأن أحدد المرتب الذى أريده.. كان هذا أمرًا مذهلًا لى.. فقد كنت أعرف أن كبار المحررين عندهم يعملون جميعًا بالقطعة.
قبلت العمل على الفور، وأخذت مكان إحسان كمعيد للصياغة..
واستمر عملى هذا إلى نهاية ديسمبر ١٩٤٨. كنت أثناءها- وعلى وجه التحديد فى ٢٩ سبتمبر ١٩٤٨- قد تقدمت لخطبة جيهان من أبيها وتمت الخطبة.
كنت راضيًا عن عملى بدار الهلال بل وسعيدًا به، ولكن حدث أن اختلف حسن عزت مع شركائه فى السويس فانتقل إلى مصر، وطلب منى أن أشاركه فى الأعمال الحرة.. لم يكن من السهل أن أرفض طلبه، فهو زميل كفاح- ثم إنه هو الذى خلصنى من الأزمة المالية التى كنت أعانى منها عندما نفدت نقودى فى حلوان، وقبل هذا وذاك كانت عندى نقطة ضعف نحو حسن عزت كصديق يحبنى ولا يخفى عنى شيئًا ويعتبرنى ضميره.
طبعًا لم يكن خروجى من دار الهلال أمرًا سهلًا، فقد تصوروا أنى أريد أجرًا أكبر وعلى هذا الأساس بدأوا يساوموننى، ولكن فشلت كل محاولاتهم وبدأت العمل مع حسن عزت بعمليات مياه صغرى فى ٥٢ قرية من قرى محافظة الشرقية باسم حسن عزت طبعًا وأنا شريكه ولكن بدون تسجيل..
انتقلت إلى الزقازيق عاصمة الشرقية.. وكنت قد تزوجت جيهان فى ٢٩ مايو ١٩٤٩. فأخذتها معى حيث قضينا شهر العسل وما بعده فى لوكاندة متوسطة الحال من لوكاندات الأقاليم هناك.. التزمت بجدول زمنى انتهينا بمقتضاه من العمليات فى نصف المدة المقررة وفعلا تم هذا.. فقد كنت أخرج من الصباح الباكر لأعمل ١٥ أو ١٧ ساعة فى اليوم.. ثم أعود فى المساء إلى زوجتى فى اللوكاندة.
أتممت العمل فى ٦ أشهر فخرجنا بربح يساوى ٦ آلاف جنيه وأعطتنا الحكومة شهادة تقدير طبعًا باسم حسن عزت.. فرست علينا ٨ عمليات مياه كبرى فى المنيا بمبلغ ٦٠ ألف جنيه، وكان هذا يعنى بالمعدل الذى سرنا عليه.. ربما لا يقل عن ٣٠ ألف جنيه.
كان من المقرر أن يبدأ عملنا بالمنيا فى نوفمبر ١٩٤٩. ولكن قبل أن نبدأ العمل قلت لحسن إننى أريد أن أستقر ماليًا.. ففى المنيا لا بد أن تكون لى شقة أعيش فيها مع زوجتى.. ثم إن علىّ التزامات مالية أخرى نحو أولادى من زوجتى الأولى التى انفصلت عنها رسميًا فى مارس ١٩٤٩. راوغ.. ثم وافق. ثم قال إننى أنفقت فى الزقازيق ٢٠٠٠ جنيه، طبعًا لم يكن هذا صحيحًا أو قريبًا من الصحة.. ففى الزفازيق لم تكن عندى أى تكاليف إلى جوار اللوكاندة المتواضعة سوى ثمن السجائر- ولكن حسن عزت أصر.. عرفته على حقيقته واشمأزت نفسى منه ومن السوق والعمل به، فتركته وفى جيبى ١٢٠ قرشًا وكان لى عنده ٣٠٠٠ جنيه هى نصيبى من عملية الزقازيق ولكننى لم أطلبها منه.
كان كل همى أن أبتعد.. أن أنجو مما وقعت فيه.. فما قيمة المال إذا أصبح دنسًا يهدد كيان الإنسان ويقوضه من داخله؟ ثم أين أحلام الصبا وآمال الشباب والمعارك التى خضتها من أجل تحرير الأرض؟ هل فعلت كل ما فعلت لكى أصبح فى النهاية رجل أعمال كل همه أن يكسب من العمليات التى يقوم بها ٣٠٠٠ جنيه أو أكثر أو أقل؟
طوال الفترة التى عشتها بعد أن بارحت السجن كنت أحس أنى بعيد عن نفسى.. غريب عن ذلك الإنسان فى داخلى الذى عشت معه- وعرفته- وارتحت إليه وكنت شديد الاعتزاز به فى الزنزانة ٥٤..
كنت على ثقة من أنه لم يذهب بعيدًا.. ربما لعبت الظروف دورًا فى ابتعادى عنه.. ولكنى كنت شديد السعادة عندما وجدتنى أقول لحسن عزت عند فراقنا.. «كم أتمنى أن يكون عندك ١٠٠ ألف جنيه وأنا لا أملك شيئًا.. لسوف أكون دائمًا أكبر منك بما لا أملك.. وأنت أقل منى بكل ما تملك».
لقد عادت ذاتى إلىّ.. وفى نفس اللحظة.. قررت أن أعود إلى الجيش.. الوسيلة الوحيدة لتحقيق الرسالة التى كانت بالنسبة إلىّ كل شىء.