رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 سنة سادات «2».. عرفت تاريخ ميلادى لأول مرة عندما التحقت بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية.. كانت لدىّ حلة واحدة ومصروفي مليمين

السادات
السادات

جئت إلى القاهرة فى سنة ١٩٢٥ فى أعقاب مقتل السردار الإنجليزى سيرلى ستاك فى سنة ١٩٢٤.. فقد كان من أهم العقوبات التى وقعتها إنجلترا على مصر، أن يعود الجيش المصرى من السودان.. فعاد وعاد معه والدى.
كنا نسكن فى بيت صغير بكوبرى القبة، وكان علىّ أن أكمل تعليمى العام الذى بدأته بمدرسة طوخ. فاختار لى والدى مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية، لأنها كانت مدرسة أهلية ومصاريفها تناسب دخله.
وبالفعل أخذت أوراقى وذهبت إلى المدرسة لألتحق بها.. عندئذ فقط ومن واقع الأوراق التى تقدمت بها، عرفت أنى ولدت فى ٢٥ ديسمبر سنة ١٩١٨.
كانت المدرسة فى الزيتون، وكنت أذهب إليها وأعود كل يوم سيرًا على الأقدام.. وفى الطريق كنت أمر بسراى القبة.. أحد قصور الملك فؤاد فى ذلك الوقت.
وما زلت أذكر كيف كنت وبعض أقرانى فى المدرسة، نتلكأ حول سور حديقة السراى فى الربيع، لنقتطف بعض ثمار المشمش.. رغم ما كان يعتلج فى صدورنا من إحساس بالخوف والرهبة.. فمجرد الاقتراب من أى شىء يخص الملك كان معناه الهلاك لى ولعائلتى ولأى إنسان.
لم أكن أعرف فى ذلك الوقت السحيق، أننى سأشارك وزملاء لى فى تغيير وجه التاريخ.. وأنى سوف أجتاز يومًا ما، هذا السور الرهيب.. وأجلس فى نفس المقعد الذى كان يجلس عليه الملك فؤاد ومن بعده فاروق.
قضيت بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية، فترة التحضيرى وسنة أولى وثانية ابتدائى.. وأذكر أننى فى تلك المرحلة، كنت متفوقًا فى التعليم. فكنت أتناوب الأولوية على الفصل مع الدكتور حسن الشريف وزير التأمينات الأسبق رحمه الله.
بعد السنة الثانية انتقلت إلى مدرسة السلطان حسين فى أول مصر الجديدة، حيث أخذت الشهادة الابتدائية.. وبعدها التحقت أنا وأخى الأكبر طلعت بمدرسة فؤاد الأول الثانوية.
كان ذلك فى سنة ١٩٣٠.. وكان القانون يقضى بأن يدخل أحدنا مجانًا والآخر بمصاريف ولكن رفض طلبنا.. فاضطر والدى إلى دفع المصاريف لى ولأخى.. كان القسط الأول ستة عشر جنيهًا.. هى كل مرتب والدى.. أعطاه لى فدفعته للمدرسة.. ولما حلّ ميعاد القسط الثانى أخذه طلعت من والدى ولكن بدلًا من أن يدفعه للمدرسة، هرب به إلى حيث لا نعرف، وأنفقه إلى آخره، ثم عاد ليعلن أنه لا يرغب الاستمرار فى التعليم.
ربما كانت هذه مشيئة القدر.. فبدون إحجام أخى عن التعليم، كيف كان سيتسنى لوالدى بدخله المحدود الإنفاق على تعليمنا نحن الاثنين.. أغلب الظن أنه كان سيضطر إلى إيقاف تعليمى.. خاصة أن طلعت هو أخى الأكبر.
فى المدرسة الثانوية تفتحت عيناى لأول مرة على أهل المدينة، وعرفت معنى الطبقة والفوارق.. ففى المدرسة كان معى ابن وزير الحربية وابن وكيل وزارة المعارف.. وكان كل منهما ينتقل إلى المدرسة ويعود منها إلى البيت فى سيارة فاخرة «كونبيل»، كما كنا نسميها فى القرية.. منظر مبهر للغاية، ولكنه لم يترك فى نفسى أى أثر للغيرة أو الحقد. وطبعا زملائى فى الفصل كانت ملابسهم أفضل من ملابسى بكثير ولكن هذا لم يصبنى بأى عقدة.
كان لى أصدقاء كثيرون من أولاد الذوات، وكانوا يعيشون فى بيوت فخمة لم أرها من قبل، ولكنى لا أذكر أننى تطلعت يومًا إلى ما هم فيه.. إطلاقًا.. ففى البلد عندنا دارنا وبهائمنا والجميع يعرفون أننى ابن الأفندى- وقبل كل شىء- عندنا الأرض التى أنتمى إليها.. صلبة.. دائمة.. لا تزول.. تمامًا مثل قيم القرية التى لا يعرفها أهل المدينة.
فى الحارة التى كنا نسكن فيها بالقاهرة، نزلت مرة لأشترى علبة كبريت من البقال.. قلت «أنا عاوز علبة كسفريت».
وفجأة انفجر الزبائن بالضحك.. اندهشت فيما يضحكون؟ قالوا لى «ضرورى تقول كبريت..» صممت على «كسفريت». واستمرت سخريتهم منى.. وفى مواجهة هذه السخرية جاءنى شعور بأننى أقوى منهم.. فمن هم لكى يسخروا منى؟
فى مرحلة التعليم الثانوية، كنت أعيش تحت خط الفقر. فقد كان والدى بدخله المحدود يعول أسرة مكونة من ثلاثة عشر ولدا وبنتًا.. ولذلك فرغم أننا كنا نعيش فى القاهرة كان بمنزلنا فرن نخبز فيه العيش.. إذ إن شراء الخبز من السوق كما يفعل أهل المدينة.. كان أمرًا لا طاقة لنا به.
وكان مصروف يدى مليمين فى اليوم، وبهذا المبلغ الضئيل كنت أشترى كوبًا من الشاى باللبن وأشربه وأنا أحس أنى أسعد إنسان فى العالم.. فى حين كنت أرى زملائى من حولى يشترون أفخر أنوع الشوكولاتة والحلوى من «كانتين» المدرسة.. وكان لدى الواحد منهم أكثر من حُلّة فاخرة يختار من بينها ما يروق له، فهو دائمًا أنيق متجدد.. أما أنا فكانت عندى حُلّة واحدة أكل عليها الدهر وشرب، ولكنى لا أملك تغييرها أو حتى تجديدها.
وحين أتذكر هذه الأشياء الآن لا أذكر أنها يومًا جعلتنى أحس أننى أقل من زملائى فى شىء، بل وفى تلك السن المبكرة لم تكن على الإطلاق مدعاة إلى أن أقارن بينى وبينهم.
أذكر فقط أنى عندما تقدمت للحصول على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، كان علينا أن نرفق بالاستمارة صورة شخصية.. وكان لهذه الصورة أهمية خاصة فى نظر أى طالب. فشهادة التوجيهية هى بطبيعة الحال نقطة تحول فى حياته.. ولذلك ذهبت إلى والدى وطلبت منه حُلّة جديدة أتصور بها هذه الصورة التاريخية.. وأدرك والدى أهمية مطلبى ولكنه قال.. «أمهلنى يومًا أو اثنين لأدبر المبلغ».. وفى اليوم الثالث جاء إلىّ وهو باسم الوجه وقال «وجدت الحل.. اذهب إلى وكالة البلح.. هناك الدكاكين كلها متشابهة ولكن هذا هو اسم صاحب الدكان الذى أريدك أن تذهب إليه..» وأعطانى مائة وخمسين قرشًا.
لم يكن حجم الدكان يزيد على متر ونصف فى مترين.. وفى واجهة الدكان طاولة بطوله تقريبًا يقف وراءها صاحب المحل وخلفه أثواب القماش وقد رُصّت على عدة رفوف.. وفى الزاوية ماكينة خياطة.. انتقيت القماش وتناوله منى الرجل وأعمل فيه المقص، ثم جلس إلى ماكينته.. وبعد ساعة ونصف ناولنى حُلّتى الجديدة.
لم تكن بالطبع لتقارن بما أعده زملائى فى المدرسة لهذه المناسبة، ولكنى كنت سعيدًا بها كل السعادة.. فهى تفى بالغرض ولا يهم على الإطلاق إذا كانت خشنة الملمس أو رخيصة المظهر.. ثم بها أو بدونها أنا هو أنا.. ذلك القروى الصغير الذى يرى فى فِلاحة الأرض ما يميزه ويميز من يمارسها على أهل المدينة الذين يعيشون على التجارة.
هكذا كانت حياتى طوال مدة تعليمى بالقاهرة، سلسلة من المقارنات أو المفارقات المستمرة بين المدينة والقرية.. ولكنها لم تكن فى أى وقت فى صف المدينة بأى حال من الأحوال.. على العكس أشياء كثيرة أزعجتنى فى القاهرة.
مثلًا منظر «الكونستابل» الإنجليزى على الموتوسيكل يجوب الشوارع ليل نهار، وبدون انقطاع كالمجنون.. بوجهه الذى فى لون الطماطم فظّ.. بليد.. وعيناه الجاحظتان وفمه المفتوح دائمًا كفم الأبله.. ورأسه المنتفخ يغطيه طربوش طويل قرمزى يصل إلى أذنيه..
كان الجميع يخشونه.. أما أنا فكنت أكره النظر إليه.. وأتساءل فى نفسى: ما الذى أتى بهذا الغريب القبيح المنظر إلى المدينة؟
لو أتى إلى قريتنا لما استطاع أن يسير خطوة واحدة.. ولكنه لم ولن يأتى.. لأنه لا يجرؤ..
وأول مرة دخلت فيها السينما فى حياتى.. كان ذلك يومًا عصيبًا.. فقد شاهدت قطار سكة حديد قادمًا من أقصى الشاشة ومندفعًا بسرعة مذهلة نحوى.. ماذا أفعل؟ أغمضت عينىّ ورجعت بجسدى إلى الوراء.. ولكن صوت القطار ما زال يدوى فى أذنى.. ففيم الانتظار؟ قمت لتوى من مقعدى وبسرعة رحت اخترق الصفوف مهرولًا فى طلب النجاة. ولفت نظرى أن الناس كلها قابعة فى مقاعدها وكأن شيئًا لم يحدث.. هذا شأنهم قلت فى نفسى.. ولكن بمجرد أن بلغت نهاية الصف- وعيناى قد تسمرتا على الشاشة- لم أجد القطار. وجدت بدلًا منه رجلًا وامرأة يتناولان الطعام فى مقهى صغير، فاخترقت الصف مرة أخرى وعُدت إلى مقعدى.. أرقب أحداث الفيلم فى هدوء كما يفعل الآخرون.
كم انبهرت ذلك اليوم بما رأيت.. وكان من نتيجة انبهارى، أن حجزت تذكرة الحفلة التالية من الساعة الثالثة إلى السادسة بعد الظهر.. وتسمّرت فى مقعدى لأشاهد القطار العجيب مرة أخرى.