رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 سنة سادات «1».. جدتى ملهمتى الأولى.. شيخ الكتَّاب فتح لى أبواب المعرفة.. وزهران بطل دنشواى صاحب أكبر تأثير فى حياتى

جريدة الدستور

العسل وصل.. يعلن المنادى فى أزقّة وساحات القرية.. وتهرع جدتى وأنا أمسك بيدها وأسير إلى جوارها نحو الترعة، حيث رست مركب العسل القادمة إلى «كفر زرقان» المجاورة لنا.
ليس الطريق طويلًا.. ولكن كل خطوة نخطوها تملأ قلبى فرحًا وفخارًا.. فالرجال على طول الطريق تقف تحية لجدتى، هذه المرأة التى لا تعرف القراءة والكتابة ومع ذلك كنت أرى الجميع يلجأون إليها لتحل مشاكلهم ولتشفيهم مما قد يصيبهم من أمراض بوصفات وأعشاب الطب العربى القديم التى لم يكن فى قريتنا أو فى القرى المجاورة من يتقنها مثلها.
ونشترى زلعة العسل الأسود ونعود إلى دارنا.. أسير خلف جدتى صبيًا أسمر ضئيل الجسم حافى القدمين، يرتدى جلبابا تحته قميص أبيض من البفتة.. لا تفارق عينيه زلعة العسل.. ذلك الكنز الذى استطعنا الحصول عليه أخيرًا.
كم كان شهيًا عندما نخلطه باللبن الرايب «الزبادى»..
وكم كان يسعدنى كما لا يسعدنى أى شىء آخر..
كل شىء فى القرية كان فى الحقيقة مصدر سعادة لى لا تماثلها سعادة أخرى.
عندما نخرج لنشترى الجزر لا من بائع الجزر.. بل من الأرض نفسها.
عندما أضع بصلة فى محمى الفرن وهم يخبزون العيش، ثم أعود آخر النهار فأخرج البصلة وآكلها.
وحينما كنت ألعب مع أقرانى فى القرية فى ليالى القمر أو نسهر على المصطبة نحن والطبيعة من حولنا والسماء فوقنا لا فاصل بيننا.
وشروق الشمس.. عندما كنت أسير مع عشرات الصبية والفتية والرجال أصحاب الدواب والبهائم فى موكب خروج الفلاحين للعمل، وسط خضرة لا يحدها البصر وبسطة الأرض التى تبدو كأن لا أرض بعدها.
كل شىء كان يسعدنى فى ميت أبوالكوم قريتى الوديعة القابعة فى أحضان دلتا النيل.. حتى برودة الماء فى الشتاء عندما كنت أخرج فى الفجر، لأن الترعة قد امتلأت بالمياه ولكن لفترة لا تتعدى الخمسة عشر يومًا هى «النوبة» أو نصيب قريتنا من الرى.. ولذلك كان الإسراع بالعمل والمشاركة فيه أمرًا ضروريًا. فنحن كل يوم فى أرض واحد منا نرويها بطنبوره أو بطنبور غيره لا يهم.. المهم أنه بانتهاء النوبة تكون أرض القرية كلها قد ارتوت.
هذا العمل الجماعى مع الغير ومن أجل الغير دون أن أنتظر منه ربحًا أو فائدة لى، جعلنى أشعر أنى لا أنتمى إلى أسرتى الصغيرة فى دارنا أو أسرتى الكبيرة فى قريتنا.. بل إلى شىء أكبر وأهم هو الأرض.
والأرض قوية صلبة.. وكل من ينتمى إليها لا بد أن يكون مثلها.. وإذ كانت هذه الخواطر تمر برأسى الصغير كنت أستعيد قول جدتى:
«لا شىء يساوى أنك ابن الأرض.. فالأرض هى الخلود لأن الله أودعها كل سره».
كم كنت أحب هذه السيدة.. كانت شخصية فى غاية القوة، بالإضافة إلى الحكمة.. حكمة الفطرة.. والتجربة.. والحياة.. وطوال فترة نشأتى فى القرية، كانت هى رأس العائلة، فقد كان والدى يعمل مع الجيش فى السودان.. وكانت هى ترعانا وتخرج وراء الأنفار كأى رجل تتعهد الفدانين ونصف الفدان التى اقتناها والدى.
أم الأفندى.. هكذا كانوا يطلقون عليها فى القرية.. ولهذا قصة.. كان منتهى أمل القروى عندنا أن يدخل الأزهر.. ولكن جدّى الذى كان يعرف الكتابة والقراءة- وهو أمر نادر فى وقته- أراد أن يشق لأبى طريقًا آخر.. فأدخله التعليم العام، حيث حصل على الشهادة الابتدائية.. وكانت فى ذلك الوقت تعتبر مؤهلًا هامًا.. فالاحتلال البريطانى كان فى أول مراحله.. وجميع المواد كانت تدرس باللغة الإنجليزية.
كان والدى أول من حصل على الشهادة الابتدائية فى قريتنا.. ولذلك رغم أن بقريتنا الآن مهندسين وأطباء وأساتذة جامعات، إلا أنه عندما يأتى ذكر الأفندى وأولاد الأفندى يعرف كل إنسان أنه والدى وأبناؤه.
ويبدو أن جدتى أرادت لى أن أسير فى نفس الطريق الذى سار فيه والدى، فأدخلتنى كُتّاب القرية، حيث تعلمت الكتابة والقراءة وحفظت القرآن. ثم نقلتنى إلى مدرسة الأقباط بطوخ، حيث يوجد دير قديم مشهور مطرانه هو نفس مطران دير وادى النطرون.
لم تكن المدرسة تبعد عن قريتنا بأكثر من كيلو واحد، ورغم أننى لم أستمر بها طويلًا، إلا أننى ما زلت أذكر بوضوح مسيو «مينا» المدرس الذى كان يعلمنا كل شىء، والذى كنا نخشاه ونحبه فى نفس الوقت.. وما زالت ترن فى أذنى دقات الجرس الكبير تعلن بدء اليوم الدراسى، فيدق معها قلبى رهبة واحترامًا للعلم.
أما كُتّاب القرية، فما زلت أراه بعين الخيال وكأننى فارقته بالأمس.. العريف الطيب الشيخ عبدالحميد، رحمه الله، الذى شيعت جنازته منذ فترة غير بعيدة.. وكنت أدين له بالكثير. فهو أول من فتح لى أبواب المعرفة والإيمان.
وأقرانى فى الكُتّاب وأنا أجلس بينهم على الأرض أحمل اللوح «الصفيح» والقلم البسط.. كل عدّتى فى تلقى العلم.. وجيب جلابيتى الفضفاض الذى كنت أحشوه فى الصباح بالجبن الناشف المخلوط بكسر الخبز، التهمه حفنة بعد حفنة أثناء الدروس وما بينها.
كان إقبالى على العلم يتزايد يومًا بعد يوم، ولكنه لم يشغلنى يومًا عن القرية.. كانت حياتى بها بهجة تتلوها بهجة.. فكل يوم يأتى بشىء جديد.. موسم الزرع.. موسم الرى.. موسم حصاد القمح.. الاحتفال بموسم الحصاد.. وأفراح القرية وصوانى الكنافة التى كنا نلتهمها فى نهم.. وموسم حصاد القطن الذى كان يأتى دائمًا مع البلح.. وكيف كنت أغترف القطن وأضعه فى عبّى، ثم أهرع إلى بائعة البلح وأعطيه لها فتعطينى ما يقابله من البلح.
حتى القصص التى كانت تحكيها لى أمى أحيانًا وجدتى أحيانًا أخرى كل ليلة.. كنت فى كل مرة أستمتع بها وكأنها جديدة، وكأننى لم أسمعها من قبل، مع أنها هى هى نفس القصص لم تتغير.
ولم تكن هذه القصص حواديت الشاطر أو بطولات أبوزيد الهلالى.. بل كانت أقرب إلينا وألصق بحياتنا من تلك الأساطير البعيدة.
كانت إحدى هذه القصص تروى كيف دس الإنجليز السم لمصطفى كامل حتى لا يكمل كفاحه ضدهم.. لم أكن أعرف فى ذلك الوقت من هو مصطفى كامل، وأنه مات فعلًا فى ريعان شبابه، ولكنى عرفت لأول مرة أن هناك قومًا اسمهم الإنجليز.. وأنهم ليسوا منا.. وأنهم أشرار لأنهم يضعون السم للناس.
وكانت جدتى تحكى لنا أيضًا موال أدهم الشرقاوى وبطولاته وكفاحه ودهاءه فى محاربة الإنجليز والسلطة.
ولكن لعل مما ترك فى نفسى أثرًا عميقًا موال زهران بطل دنشواى.. وأنا أستمع إليه من أمى وقد اعتليت سطح الفرن الدافئ، وإلى جانبى الأرانب وإخوتى الصغار وقد استغرقوا جميعًا فى النوم، أما أنا فكنت بين اليقظة والمنام.
كان هذا الموال يستهوينى كل مرة أستمع إليه.. فدنشواى قرية لا تبعد عن قريتنا بأكثر من خمسة كيلومترات.. والموال يحكى كيف أن عساكر الإنجليز عندما شاهدوا أبراج الحمام فى دنشواى أطلقوا عليها الرصاص.
وطاشت طلقة أحرقت جرنًا من أجران القمح.. وتجمع الفلاحون فأطلق عليهم الرصاص أحد عساكر الإنجليز وجرى.. جرى الفلاحون وراءه وأمسكوا به وحصلت معركة مات فيها العسكرى الإنجليزى.. وفى الحال قبضوا على الأهالى، وشكلت محكمة عسكرية فى القرية، وعلقت المشانق قبل صدور الأحكام التى قضت بجلد عدد من الفلاحين وشنق عدد آخر.
وكان زهران بطل المعركة التى قامت مع الإنجليز وكان أول من حكموا بشنقه.. ويحكى الموال عن شجاعة زهران وصموده فى المعركة، وكيف أنه تقدم إلى المشنقة مرفوع الرأس فخورًا مزهوًا بنفسه، لأنه استطاع أن يتصدى للمعتدين وأن يقتل أحدهم.
كنت أستمع إلى الموال ليلة بعد ليلة، وأنا بين النوم واليقظة- كما قلت- ولعل هذا ما جعل عقلى الباطن يختزن القصة.. وأطلق العنان لخيالى. فكم رأيت زهران وعشت بطولته فى الصحو وفى المنام.. وكم تمنيت لو كنت زهران.
وهكذا أدركت من فوق سطح الفرن فى دارنا بالقرية أن هناك خطأ ما فى حياتنا.. وقبل أن أرى الإنجليز.. وأنا ما زلت داخل قريتى.. تعلمت أن أكره المعتدين الذين قتلوا وجلدوا أهلنا.
هكذا قضيت السنوات الأولى من حياتى فى قريتى الوادعة، إلى أن كان يوم وجدت نفسى فيه أنتقل فجأة مع أسرتى إلى القاهرة لأن والدى- كما قالوا لى- قد عاد من السودان.
كم كان عمرى حينذاك؟ لم أكن أعرف.. عرفت فقط بعد ذلك أن أحداث حياتى كانت تسير جنبًا إلى جنب مع أحداث التاريخ.
هكذا- كما يبدو.. شاء القدر.
من كتاب «البحث عن الذات» لأنور السادات