رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

درس عظيم فى التوبة



انقضت ٤٠ يومًا على معركة تبوك، فيقول كعب: «حتى بدأ النبى يعود منتصرًا من غزوة تبوك فطفقت يحضرنى همى، أتذكر الكذب، وأقول لنفسى: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ حتى نودى فى المدينة: عاد رسول الله.
يقول: «فأول ما نودى: عاد رسول الله، فأجمعت الصدق، وذهبت إلى النبى فى المسجد فوجدت المنافقين- حوالى بضع وثمانين- سبقونى إلى رسولِ الله، كل منهم يعتذر ويحلفون له، والنبى يقبل منهم ويستغفر لهم، حتى رآنى، فقال: تعال، وابتسم إلىَّ ابتسامة الغضبان، فجلست بين يديه، قال له النبى: «ما الذى خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ (ألم يكن عندك جمل؟)، فقلت: يا رسول الله، والله لو كنت عند غيرك من ملوك الدنيا لكذبت عليه، ولقد أُعطيت جدلًا، والله يا رسول الله لو قلت لك حديثًا يرضيك عنى اليوم، يسخط علىَّ الله فيه، ليوشكن الله أن يُسخطك على، ولئن قلتُ لك حديثَ ِصدق تجدُ علىَّ فيه- تغضب منى فيه- لكنه الحق أرجو فيه الرحمة من الله، يا رسول الله لم يكن لى عذر، ولم يكن أقوى ولا أيسر منى فى هذه الغزوة، وكانت لى راحلتان، فقال النبى: أما هذا فقد صدق، لكنه قال له: قم حتى يقضى الله فيك.
يضيف كعب: هممت أن أرجع إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، فأكذب نفسى، ثم سألت: هل لقى ذلك غيرى؟ نعم.. هلال بن أمية ومرارة بن الربيع، فأجمعت على الصدق.
«ونهى النبى، صلى الله عليه وسلم، أهل المدينة عن كلامنا خمسين ليلة»، لا يحدثهم أحد كل هذه المدة، ولا يردون عليهم السلام!
يقول كعب بعد أن نهى رسول الله أهل المدينة عن كلامهم: «حتى تنكرت لى نفسى» تعبير شديد يصف فيه الحالة السيئة، والقرآن الكريم وصف هذه الحالة، «وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ».
كان العقاب شديدًا، لأن النبى يريد بناء الإنسان، والانضباط الحياتى جزء من بناء الإنسان، فكان الجزاء من صنف العمل، وكانت المدة التى قاطعهم خلالها المسلمون هى نفس مدة الحرب.
يقول كعب: «فلما زاد همى، تعلقت على جدار مزرعة ابن عمى وناديت عليه: يا أبا قتادة، فلم يرد علىّ وهو يعمل أمامى فى مزرعته، فقلت يا أبا قتادة: السلام عليكم، فلم يرد علىَّ السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أناشدك بالله، هل تعلم أنى أحب الله ورسوله؟ فلم يرد علىّ، فقلت: أقسمت عليك هل تعلم أنى أحب الله ورسوله؟، فلم يرد علىّ، فقلت للمرة الثالثة: يا أبا قتادة أقسمت عليك هل تعلم أنى أحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عينى، ونزلت من الجدار أبكى».
وتابع: «فبينما أنا أسير فى الأسواق فى المدينة، إذا برجل نبطى من أنباط الشام- من فلاحى الشام- معه رسالة وينادى فى الأسواق: أين كعب بن مالك؟، فأشار الناس إلىّ، فجاءنى وقال: معى لك رسالة من ملك الغساسنة، وقد علم ما حدث لكعب وهو شاعر عظيم، فأخذت الرسالة لأقرأ ما بها: بلغنا أن صاحبك- أى النبى- قد جفاك، فالحق بنا نواسيك، وتكون لك المنزلة عندنا».
معروض عليك أن تلتحق بوطن آخر غير وطنك، فهل تفعل؟ هل ستبيع وطنك، هذا شكل آخر من الانضباط الوطنى، على الرغم من الصراع النفسى بداخله، لم يبع وطنه ولا أهله، يقول كعب: «فنظرت إلى الخطاب، فقلت: وهذا أيضًا من البلاء، فأخذتها ورميتها فى التنور (النار)».
ومضى قائلًا: «فلما اكتملت أربعين ليلة جاءنى رسول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول لى: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا؟ قال: لا ولكن لا تقربنّها، فقلت لامرأتى: الحقى بأهلك»، هذه خصوصية لا يملكها بين رجل وزوجته إلا رسول الله، اكتملت الخمسين ليلة، والعقوبة كانت رادعة، والرسالة وصلت، فنزلت الآيات فى سورة التوبة، من الآية ١١٧ وإلى الآية ١٢١: «لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ».
نزلت هذه الآيات فى صلاة الفجر، وكان «كعب بن مالك» يصلى الفجر على سطح منزله بسبب شدة همه وحزنه، فلما نزلت الآيات بالتوبة، انطلق رجلان، أحدهما ركب فرسًا، وآخر صعد فوق جبل، يقول كعب: «فقام الذى على الجبل فقال: يا كعب بن مالك أبشر، تاب الله عليك، فكان الصوت أسرع من الفرس». يقول كعب: «فكنت على سطح بيتى، فسجدت شكرًا لله عز وجل»، فوصل إليه الرجل الذى ركب الفرس، يقول: «والله ما كان عندى إلا عباءة واحدة، فخلعتها وألبست البشير إياها، واستعرت عباءة من أبى قتادة، ثم انطلقت إلى المسجد، يتلقانى الناس فى الطريق أفواجًا، يُسلّمون علىّ لِيهنك توبة الله عليك يا كعب، حتى دخلت المسجد فرأيت النبى، فابتسم إلىّ كأن وجهه قطعة من القمر، وكنا نعرف إذا ابتسم النبى وهو فرِح كأن وجهه كالقمر، فقال لى: تعال، فقدمت حتى جلست بين يديه، فنظر إلىَّ وقال: أبشر يا كعب بخير يومٍ طلع عليك منذ ولدتك أمك، تاب الله عليك، فقلت: يا رسول الله، إن من توبتى إلى الله أن أخرج من مالى بصدقة، فقال له النبى أمسك عليك بعض مالك، وإن من توبتى ألا أُحدث يا رسول الله بعد اليوم إلا صدقًا فإنما نجانى الصدق»، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ).
ماذا عن المنافقين؟ «سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ».