رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

درس عظيم فى التوبة «1-2»


فى السنة التاسعة من الهجرة، خرج المسلمون بقيادة النبى، صلى الله عليه وسلم، لقتال الروم فى غزوة «تبوك»، بعد أن وصلتهم أخبار عن نيتهم الإغارة على المدينة، انتقامًا لما حدث فى «مؤتة»، وقيل إن أعداد الرومان ما بين ٤٠ ألفًا و٢٠٠ ألف.
دب فى نفوس المسلمين الخوف، وكلما حدث شىء غير طبيعى فى المدينة، قالوا: أجاءت الرومان، عمر بن الخطاب يقول: كان لى صاحب من الأنصار، فإذا به يدق الباب: افتح.. افتح، فقلت: أجاء الغساسنى.
فكان على المسلمين أن يخرجوا لهم على الفور بجيش قبل أن يدخلوا عليهم، لكن كانت هناك مشكلة، فالتوقيت فى غاية الصعوبة ودرجة الحرارة كانت مرتفعة جدًّا، والثمار على الشجر قد نضجت وحان قطافها، وكل صحابى له مشروعه الشخصى- حيث إنهم كانوا مزارعين- وكل واحد منهم بدأ يجهز نفسه ليجمع المحصول.
المسافة من المدينة إلى تبوك ألف كيلو، والنبى عمره ٦٢ سنة، وقد سمى الله سبحانه وتعالى هذه الغزوة فى القرآن «العُسرة» لما فيها من مشاق، فكان كل ثلاثة من الصحابة يتناوبون على ركوب بَعير واحد.
أمر النبى «لا يصاحبنى إلا من كان له أكثر من نعل»، خرج مع النبى على الرغم من كل هذه الظروف ٣٠ ألف مقاتل، جاءه سبعة من الصحابة يريدون الجهاد معه، لكن لا أحد يملك الأدوات اللازمة للسفر والقتال «وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ».
فى الوقت الذى تراجع فيه الرومان عن قتال المسلمين، الرسول لم يكن يعلم، فلماذا لم يخبر الله نبيه، حتى لا يقطع كل هذه المسافة ويتكبد هذه المعاناة الشديدة؟، اختبار فى الانضباط النفسى والإرادة لـ٣٠ ألفًا، كانوا يحتاجون للعيش مدة طويلة مع النبى قبل موته ليعدهم، فكانت مدة هذه الغزوة ٥٠ يومًا (١٥ ذهابًا ١٥ عودة و٢٠ يوم إقامة بتبوك).
وضع الناس أمام اختيار: أنت منضبط ولا مستهين؟، كما أن التربية بالمعايشة، وليست مجرد كلام نظرى.
كاد بعض الصحابة يفقدون انضباطهم، ومنهم من التحق بجيش المسلمين، مثل «أبوخيثمة»، الذى تأخر يومين بعد خروج الجيش، وكان متزوجًا من اثنتين ولديه بستان جميل، فتذكر حاله وحال النبى وقتها، وقال: رسول الله فى الضح (الشمس) والريح والحر، وأبوخيثمة فى ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة.. ما هذا العدل؟، والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول، فهيِّئا لى زادًا فارتحله، حتى أدركه حين نزل تبوك، حتى إذا دنا من رسول الله، قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبوخيثمة.
تخلف أبوذر، وأبطأ به بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره، يا رسول الله: إن هذا الرجل يمشى على الطريق وحده، فلما تأمله القوم قالوا‏:‏ يا رسول الله، هو والله أبوذر، رحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.
أرسل النبى، خالد بن الوليد مع ٤٠ فارسًا إلى «أكيدر» قائد «دومة الجندل»، الذى حرك الرومان ليحاربوا المسلمين، حتى يأتيه به، سألوا عنه فقيل لهم إنه يصيد البقر، فعجب خالد: يعلم بقدومنا فى وقت حروب يصيد البقر، فاختبأ خالد بجوار الحصن يومًا كاملًا.
وكان «أكيدر» وامرأته فى شرفة داخل الحصن، فأقبلت البقر تحمل قونها بباب الحصن، فقال: «ما رأيت كالليلة لحمًا ما رأيت مثل هذا قط، من يترك هذا، لقد كنت أضمن لها الخيل شهرًا، فجرت البقر، وسعى للحاق بها، فأسره خالد وأخذه إلى النبى»، وأبقى النبى «أكيدر» على «دومة الجندل» ملكًا على ألا يمنع أن يعرض على أهلها الإسلام.
فى تبوك، تخلف ٣ من الصحابة عن الغزوة، أشهرهم سيدنا كعب بن مالك، والقصة فى صحيح البخارى، ونزلت فى سورة التوبة لتتحدث عن «كعب بن مالك» وسُميت بسورة التوبة، لم تكن التوبة هذه المرة من الذنوب، بل من الاستهانة بصفه أساسية لأى حضارة أو شعب، ألهذه الدرجة الأمر عظيم عند الله؟ نعم هو كذلك وهذا هو الإسلام.
يروى القصة عن عبدالله بن كعب بن مالك فيقول: حدثنى أبى بما حدث له فى تبوك، يقول: «لم أتخلف عن رسول الله فى غزوةٍ قط إلا هذه الغزوة»، «ولقد شهدت بيعة العقبة، فجاءت غزوة تبوك، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، (أى لا يقول صراحة إلى أين هو متوجه ليفاجئ العدو) إلا فى غزوة تبوك: لماذا؟ لأنه سيقابل عدوًّا كبيرًا، وهم الرومان، والمسافة طويلة، حتى يكون الصحابة مستعدين لذلك.
يتابع كعب: فكلما أردت الخروج لأتجهز جلست وثبطتنى نفسى، فطفقت كلما أردت أن أتجهز للخروج مع رسول الله أقعد، حتى بدأ النبى يخرج بالجيش، وهو يقول: «أنا قادر على ذلك إن أردت، وأخرج إلى السوق لأرى ما سآخذه معى».
يقول: «ولم أكن أبدًا أقوى منى ولا أيسر، ولم يجتمع لى راحلتان إلا فى هذه المرة»، وكأنه يواجه نفسه بوضوح ويعترف بخطئه وينفى عن نفسه أى عذر.
يقول: «حتى غادر الجيش، واستحال اللحاق بهم، فخرجت إلى المدينة لا أجد إلا منافقًا مغروسًا فى النفاق، أو صاحب عذر، فطفقت أنظر فى المدينة»، وكأنه بدأ يتخيل حجم المأساة التى بها بسبب تخلفه عن رسول الله.