رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعيد شعيب يكتب مذكراته: عندما فكرنا فى اختطاف الأطفال من أجل الثورة الاشتراكية العظمى

سعيد شعيب
سعيد شعيب

كنت أرى أن أموال الرأسماليين حلال لنا ومن حقنا استردادها وإعادتها لأصحابها العمال والفلاحين

عرفت شيوعيًا هاجر إلى بلد أوروبى وحصل على الدكتوراه منه ثم عاد إلى مصر ويعيش على الإعانة المقدمة من «الدولة الرأسمالية المتوحشة»

أحد الشيوعيين الذين عرفتهم المرأة بالنسبة له «صيدة جنسية» ووظيفتها أن تكون خادمة مطيعة تنجب الكثير من الأطفال

لم أكن أعرف لماذا أصروا على حضورى هذا اللقاء الخطير فى ثمانينيات القرن الماضى. لم أكن متأكدًا إذا كانوا أعضاء فى حزب العمال الشيوعى أم لا، فقد هجرته منذ عدة أشهر. كانوا ثلاثة من الشبان الصغار. كانوا من الجيل التالى لنا فى مدينة شبرا الخيمة الذى التحق بحزب العمال الشيوعى أو أصبح من المتعاطفين معه، آمنوا بالماركسية وملأ قلوبهم «الحلم الاشتراكى» ومن بعده «الحلم الشيوعى»، حيث العدالة المطلقة والوفرة المطلقة والسعادة المطلقة.
صحيح أننى لست متأكدًا من انتمائهم التنظيمى للحزب، لكنى كنت متأكدًا من قربهم من رفيق كان قد ترك هو أيضًا الحزب، ليس اعتراضًا على الماركسية أو عدم إيمان بالشيوعية «لا سمح الله»، ولكن لأنه شعر بأن حزب العمال الشيوعى المصرى ليس ثوريًا بما فيه الكفاية، وتأكد كما قال إنه ليس الطريق الصحيح إلى «الثورة الاشتراكية».
كان هذا الرفيق يشاركنى التململ من أداء حزب العمال، كنا نشعر بأن هناك شيئا ما خطأ. ولأننا كنا فى «خلية» واحدة فقد شاركنى احتجاجًا محدودًا على أداء الحزب، وبعد مناقشات طويلة مع قائدنا المباشر، لم يستطع الرجل المسكين هزيمتنا فى النقاش، ولا إقناعنا بأن كل شىء «تمام التمام». فقرر أن يرفع الأمر إلى «لجنة المنطقة»، التى اختارت أحد أعضائها لكى يتولى إقناعنا والقضاء على هذا التمرد المحدود. أدار الرجل نقاشًا طويلًا معنا «كنا ثلاثة»، أرهقنا وأرهقناه. كان يرتدى نظارة سميكة ووجهه وطريقته أقرب إلى موظف من الذين كانوا يظهرون فى أفلام الأبيض والأسود. لكن لأنه كان أكثر منا معرفة بالماركسية ونبيها لينين، نجح «الفقيه الماركسى المحنك» فى أن يلجمنا بنصوص مقدسة من «الفلسفة الماركسية» ومن كتابات إنجلز رفيق ماركس، ومن كتب لينين وأهمها بالطبع «ما العمل؟». فهمت منه بشكل غير مباشر أن سبب تمردنا الصغير ليس عيبًا فى أداء الحزب، ولكن لأننا ما زلنا «برجوازيين صغارا»! لم نتخلص بعد من الأمراض المتوطنة فينا، وهذه الأمراض اللعينة هى التى تعيق العمل الثورى. أى أننا ما زلنا فى البدايات ولم نصل بعد إلى أن نكون «شيوعيين أنقياء». أتمنى أن أرى وجه هذا الرجل بعد أن اختفى حزبه، بل وتبخرت اشتراكيته من العالم.
بعد خروجه من الحزب أسس رفيقى مجموعة «تروتسكية» (نسبة إلى تروتسكى قائد الجيش الأحمر الشيوعى فى الحرب الأهلية الروسية عام ١٩١٧ وبعد الفوز استولى الشيوعيون على السلطة، كنا نسمى ذلك بلا خجل ثورة شعبية). الحقيقة أنه كان قارئًا نهمًا وقادرًا على الدراسة والتحليل. فقد كان يدرك بشكل ما أن هذا هو الذى يمنحه «جاذبية ثورية» فى وسط الرفاق ووسط الرفيقات. بعكس العمل الجماهيرى الذى فشل فيه، لأنه لا يملك القبول وربما الرغبة، وربما لأنه مشحون بالمخاطر.
ألح على رفيقى أن أنضم إلى منظمته الجديدة وأعطانى كتبا عن «التروتسكية»، أذكر منها كتاب «النبى المسلح»، لكننى رفضت. أعجبنى إيمان تروتسكى بأفكاره، وهروبه من الاتحاد السوفيتى، بعد خلافاته مع ستالين، الذى ظل يلاحقه حتى استطاع أحد عملائه أن يشق رأس تروتسكى بـ«بلطة». على ما أتذكر كان تروتسكى آخر أعضاء المكتب السياسى المعارضين لستالين، فالباقون منهم من اختفى ومنهم من قتل ومنهم من دخل السجن.
فى هذه الفترة اهتز هذا الجدار الأيديولوجى الصلب للماركسية فى عقلى، كنت أشعر بأن هناك شيئًا ما خطأ لكنى لا أستطيع الوصول إليه. كنت مصدومًا ومرتبكًا ومتعبًا وحزينًا.. فقد خسرت كل شىء. الحزب الذى كنت شغوفًا بأن أكون جزءًا منه، كنت أريد الاختباء والاحتماء بكيان أكبر منى ومن أسرتى. والدى الذى خسرته إلى الأبد. زوجتى المسكينة، التى أنهكها الفقر والضياع.
لذلك قررت أن أصدق بكل خجل حدسى، أصدق قلبى، أصدق نفسى. فقد كانت متاهات فقهاء الماركسية تحيرنى وتزيدنى ارتباكًا. كنت قد قررت وقتها عدم الانضمام إلى أى تنظيم سرى شيوعى. كما أننى لم أجد فارقًا بين حزب العمال الذى هجرناه والحزب التروتسكى الجديد. فالفرق بين ستالين وتروتسكى فى التفاصيل والإجراءات، كلاهما انقلابى دموى، وكلاهما يؤمن بالماركسية.. هذا استولى على السلطة وهذا فشل وهذا يعدنا بأنه إذا استولى على السلطة فلن يفشل.
هذا الرفيق كان على علاقة ما بالشبان الثلاثة. عندما فاتحونى قال أحدهم لى: نحن نثق بك ونحتاجك فى تنفيذ أمر خطير، سيمكننا من الحصول على المال من أجل الحركة الشيوعية.
لم ألحظ أى شىء وأنا أدخل إلى مكان الاجتماع السرى، منزل بسيط على أطراف مدينة شبرا الخيمة. لكن الغرفة التى جلسنا فيها كانت ضيقة. سرير صغير و«كنب» مفروش عليه سجاد باهت مصنوع من ملابس قديمة. كان غريبًا وجود ترابيزة طويلة، محشورة فى هذا المكان الضيق، غالبا تم وضعها من أجل اجتماعنا.
بعد التحيات والسلامات، تحدث أحدهم ويبدو أنه كان صاحب الفكرة أو المخطط الرئيسى لها. كان الهدف هو اختطاف طفل ابن أحد الأثرياء والمطالبة بفدية كبيرة. ارتبكت وخفت جدًا. لم يكن بسبب رفضى الاستيلاء على أموال الرأسماليين، فهى «حلال» لنا، إنها أموال العمال التى نهبوها، ومن حقنا استردادها لكى تمكننا من تحقيق الثورة. فالرأسماليون طبقًا لما قرأنا وتعلمنا وتربينا داخل الحزب «أموالهم وممتلكاتهم حلال لنا»، لكى نعيدها إلى أصحابها الحقيقيين، وهم العمال والفلاحون. لكن كانت المشكلة فى هذه الطريقة الخطرة التى ربما تودى بى إلى السجن لسنوات وسنوات بتهمة مشينة «خطف طفل» وليس باعتبارى «معارضا شيوعيا» للسلطة الحاكمة.
كان الشاب ذو الوجه الدائرى الرجولى اللطيف واثقًا من نفسه ومن خطته. شرح فى البداية أهمية أن يكون لدينا أموال حتى نستطيع العمل السرى من أجل «الثورة الاشتراكية». وحسبما أتذكر لم يخالفه أحد، بل كان رفيقاه يؤكدان على رأيه. ثم استفاض فى شرح الخطوط الرئيسية ثم شرح التفاصيل بدقة، ليؤكد أن التنفيذ سيكون آمنًا.

كان الشبان الثلاثة من أسر فقيرة فى شبرا الخيمة، لم أكن أعرف الكثير عن الاثنين اللذين كانا يناقشان الخطة، لكنى كنت أشعر بقليل من عدم الارتياح لهما. أحدهما كان وجهه مزعجًا، عينان واسعتان وشفاه غليظة إلى حد ما، كان فيه شىء يربكنى. أما الثانى، فقد كان يتحدث باستعلاء مستفز، وربما مبطن بسخرية جارحة.
أما الشاب الثالث قائدهم، فقد كنت أعرفه أكثر، وكنا على مقربة من صداقة قوية. ربما أحد الأسباب أو السبب الرئيسى هو أنه حقق انتصارًا مدويًا على البرجوازية مثلى. فقد أحب فتاة من أسرة ثرية وأحبته، وبالطبع رفضت أسرتها زواجهما، لأنه ليس لديه عمل ولا مستقبل واضح. لكنهما تزوجا، وعاشا متنقلين بين بيوت بعض الرفاق، وبين غرف صغيرة إيجارها قليل.
أظن أننا اقتربنا من بعضنا أيضًا لأنى مثله رفضت أن أكون «صاحب مصنع» أى أعمل مع أبى البرجوازى فى مصنعه، والذى سيكون لى ولإخوتى من بعده. فقد هجرت البيت لأن والدى عرف عن طريق جاره «المخبر» فى قسم شرطة شبرا الخيمة أننى ارتبطت بفتاة وأننى أصبحت «شيوعيا».
بعد أن ذكر قائد المجموعة التفاصيل وتفاصيل التفاصيل أعطى مهام، منها مراقبة هذا الرأسمالى الذى سوف نختطف ابنه، وآخر يرتب مكانا لإقامة الطفل أثناء الاختطاف... إلخ. ماطلت حتى لا يكلفونى بمهمة.
لم أر هؤلاء الشباب مرة أخرى، فقد كنت خائفًا، وكان حدسى وقلبى يقولان لى لا تفعل، لا تشارك. كان عقلى يستعيد ما حفظته وفهمته: هذا العمل ليس جريمة لأن الهدف منه هو تمويل «النشاطات الثورية»، التى لا بد أن تحدث حتى نصل إلى «الثورة الاشتراكية»، فالهدف نبيل، كما أننا فعليًا لا نسرق، إنما نستخدم المال الذى نهبه هذا الرأسمالى «والد الطفل» لكى نحرر أصحابه العمال من الظلم، ثم إننا لن نؤذى الطفل.
ربما ما حسم الأمر هو شعورى بأنه لا يليق أن يتم القبض على كـ«لص» وليس كـ«شيوعى» له قضية يدافع عنها، كانت ستكون فضيحة أمام أسرتى وأمام أبى الذى سيؤكد لكل من «هب ودب» أن «الواد بايظ» كما كان يقول. وربما لأننى كنت خائفا مثل أغلب المصريين من الشرطة والسجون، لكنى لم أكن خائفًا من السجن العسكرى، عندما شاركت بكل قوتى فى أنشطة الحزب أثناء الانتخابات البرلمانية عام ١٩٨٤، رغم أننى كنت مجندا فى الجيش ومن الوارد جدًا أن يتم القبض علىَّ وتتم إحالتى إلى محكمة عسكرية، فغير مسموح فى الجيش بممارسة أى نشاط سياسى، فما بالك بنشاط معارض وسرى وشيوعى.
فى النهاية اختفيت، ولم أتواصل مع هؤلاء الشباب وتجاهلت رسائلهم لى مع بعض الرفاق. وأغلب الظن أنهم لم ينفذوا عمليتهم، كما لا يمكننى الجزم بأن رفيقى مؤسس المجموعة التروتسكية كانت له علاقة بهذه الجريمة.
عرفت بعد ذلك بسنوات أن قائد هذه المجموعة طلق حبيبته البرجوازية وعادت إلى أسرتها. أما هو فقد هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولا أعرف أنا أو من أعرفهم أى شىء عنه. ورفيقاه أحدهما هاجر إلى بلد أوروبى، وحصل على دكتوراه. وبعد سنوات طويلة عاد إلى مصر ليعيش على الإعانة التى ينفقها عليه هذا البلد الأوروبى الذى يحمل جنسيته، لأنه مريض ولا يستطيع العمل. عندما قابلته فى أحد البارات فى مصر، لم نتحدث عن هذه الواقعة رغم أننا تحدثنا فى أشياء كثيرة. الغريب أنه ما زال محتفظًا بهذا الاستعلاء المستفز، وبهذه السخرية الجارحة، وعرفت وقتها أن منبعها غالبًا هو «استعلاء الجهلاء»، أى الذين لم يحصلوا إلا على قشرة معرفة، وقشرة حياة، لا شىء حقيقيًا، ولا يبقى أمام هذا المسكين إلا الاحتماء بالاستعلاء والسخرية التى تقف على حافة إهانة الآخرين. ربما ذلك ما سبب له الأمراض النفسية التى قال لى إنها أفسدت زواجه من أجنبية، وعطلته عن العمل، ليتحول إلى عاطل يعيش على إعانة دولة «أوروبية رأسمالية متوحشة».
أما الثالث فلم يترك مصر وقابلته مرة أو اثنتين، لم نتحدث فى شىء، لكنه ما زال يملك العينين اللتين كنت أخاف منهما. الغريب هنا أن اثنين من ثلاثة اختارا الهجرة إلى بلاد رأسمالية إمبريالية متوحشة، رغم أن مشروعنا الأيديولوجى يقوم على هدمها وتدميرها. لماذا اختار الرفيقان الحياة فى بلاد الأعداء؟.
سؤال لا أجد إجابة له، وخاصة أن السفر إلى الخارج فى أوساط حزب العمال الشيوعى جريمة وخيانة، أى «باع القضية» كما كنا نقول.. العمل فى الخليج خيانة، فما بالك بهجرة دائمة وجنسية بلاد الأعداء. هؤلاء وغيرهم من الذين هجروا مصر وباعوا القضية لم يخطر على بال واحد منهم أن يستقر فى «كوبا» حيث الشيوعية التى أسسها كاسترو ورفيقه الرومانسى جيفارا. ولا فكروا فى أن يستقروا فى روسيا ليحاولوا إعادتها إلى «الاشتراكية»، أو حتى سوريا أو العراق، حيث يوجد حزبان بعثيان «فيهم ريحة اشتراكية» يحكمان، أظن أن الأمر يحتاج إلى دراسة وتحليل عميق.

الغريب أننى نسيت واقعة الخطف تمامًا، محاها عقلى من الذاكرة، لم أتذكرها إلا مؤخرًا بعد مرور حوالى ٣٠ عامًا. ربما السبب أنها مؤلمة، ربما لأننى ما زلت أشعر بالخجل والعار لأننى فكرت مجرد تفكير فى الاشتراك فى هذه الجريمة.
رفيقى زعيم المجموعة التروتسكية كان على علاقة ما بهؤلاء الثلاثة، يعاملونه بإجلال واحترام شديد ويشيدون دائمًا بـ«ماركسيته» و«ثوريته» وعقليته الاستثنائية فى رأيهم. لكن قائد هذه المجموعة قال بعد سنوات طويلة إن هذا الرفيق خلال علاقته بحزب العمال ومن بعده المجموعة التروتسكية لم يضح بأى شىء، ولم يخسر أى شىء. حافظ طوال الوقت على التواجد فى منطقة آمنة. لم يقم بأى «فعل ثورى» حقيقى يعرضه للمخاطر. بل يمكن القول إن علاقته بالحركة الشيوعية مجرد ثرثرة على المقاهى، يبرز ويلمع فيها الأكثر تشددًا فى الفقه الماركسى.
فى الغالب هذا صحيح فلم يحدث أى تغيير فى حياته. ظلت المرأة بالنسبة له مجرد «صيدة جنسية»، حارب بكفاءة لكى يقتنصها دون سقف أخلاقى. الوظيفة الثانية للمرأة فى رأيه هى أن تكون زوجة، خادمة «شيك» مطيعة فى البيت تنجب الكثير من الأطفال، وتقبل أن «يمسح بها البلاط» عندما لا يعجبه طعامها «الطبيعة خلقتهم عشان كده يا سعيد».
رفيقى «المنظر» هجر حزب العمال، لأن قياداته ليسوا ثوريين حقيقيين، ليسوا شيوعيين أنقياء. فقد كانوا كما يقول يعيشون تحت سطوة الستالينية (نسبة إلى ستالين الذى تولى الحكم فى الاتحاد السوفيتى بعد موت لينين- توريث شيوعى). لذلك سعى إلى تأسيس حزب شيوعى جديد يستند إلى أفكار «النبى المسلح تروتسكى»، ويتجنب الخطأ الكبير الذى وقع فيه حزب العمال وهو «فقر التمويل»، فقد كان يعتمد على «اشتراكات الأعضاء»، وهى لا تكفى لأى شىء. لذلك قرر صاحبنا أن تكون نواة حزبه الجديد من الأثرياء. ركز على طلبة وطالبات الجامعة الأمريكية، من أبناء البرجوازية الكبيرة، أبناء كبار المحامين والقضاة ولاعبى الكرة، رجال أعمال. رفيقى القديم يقول لى بفخر إن من بين من جندهم من الأثرياء ابنًا رياضيًا كبيرًا وابن أحد كبار المحامين فى مصر (أصبح ممثلًا مشهورًا فيما بعد) وواحدة من أسرة أرستقراطية قديمة حافظت على توازنها المالى بعد استيلاء ضباط يوليو ١٩٥٢ على أراضيهم، وغيرهم وغيرهم. نجح بالفعل فى تأجير شقق وشراء أجهزة طباعة، وصرف مرتبات شهرية للمتفرغين للعمل الحزبى السرى، وهو بالطبع على رأسهم.
هذا الحلم استمر فترة قصيرة. وحسب روايته، فقد سيطرت على هذا الشباب الرغبة فى الزعامة طالما أنهم يملكون المال، ودخلوا فى خلافات أيديولوجية أدت إلى تفتتهم. ولأنهم هم من يملكون المال حاول كل منهم أن يستقطب الآخرين، ليصنع مجموعة تروتسكية تكون نواة لحزب ثورى سرى. إنها أمراض أبناء البرجوازية كما كان يقول لى.
أظن أن هذا ليس السبب الوحيد، فربما يضاف إليه ولع رفيقى بالعلاقات مع الجنس الآخر دون أى محدد أخلاقى أو حتى «ماركسى»، فالمرأة كما كانوا يقولون لنا جعلتها البرجوازية «سلعة»، ودورنا كثوريين أن «نحررها» لكن بالتأكيد ليس على طريقة رفيقى. لقد اكتشفت أنه طلب مفتاح شقتى الصغيرة، ليس لكى يهرب من ضيق مساحة بيتهم ويستطيع الرسم، ولكن لكى يمارس فيها علاقاته. فقد اكتشفت أنه فعل ذلك مرات ومرات مع زوجة رجل كنا نحاول تجنيده هو وزوجته. وعرفت بعد سنوات طويلة وبالصدفة أنه فعل ذات الشىء مع أخت رفيق لنا كانت متزوجة.
الغريب أن زوجته اكتشفت الأمر أكثر من مرة، وثارت وتدخل أهلها، لكنها لم تطلب أبدًا بجدية الطلاق، وعندما أصبح من حق المرأة الذهاب إلى المحكمة للحصول على الخلع لم تفعلها أبدًا.
لكن هذا لا يعنى أبدًا أن هذه «الفوضى الجنسية» كانت هى السائدة، بل على العكس، كانت الاستثناء وتتم ممارستها فى الخفاء، وإذا عُرفت بالصدفة تكون مستهجنة وغير مقبولة، لكن لم يترتب عليها عقوبة تنظيمية من الحزب.
ففى النهاية معظم الذين عرفتهم فى حزب العمال الشيوعى وفى غيره، كانوا نبلاء صادقين فى البحث عن «جنة» لبلدنا العظيم، لكنهم للأسف عبدوا الطريق الذى اعتقدوا أنه يوصلهم إليها، ونسوا الهدف، الحلم، العدل والحرية لأنفسنا ولغيرنا، وهذه الأهداف هى التى تمنحنا شجاعة تغيير الطريق إذا اكتشفنا أنه مضلل. لقد أصبح الطريق فى حد ذاته هو الهدف، أصبح أهم من الجنة التى نحلم بها، أهم من الناس، أهم من البلد.. استعبدتنا الماركسية وأنبياؤها وفقهاؤها.. إنه «العمى الأيديولوجى» الذى دمرنا.