رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف استطاع النبى أن يكسب قلوب أعدائه؟ «1-2»


فى العام التالى من صلح الحديبية «سنة ٧ هجرية»، خرج النبى، صلى الله عليه وسلم، ومعه ألفان من المسلمين، من بينهم نساء وأطفال، قاصدًا مكة لأداء العمرة، والتى سميت بـ«عمرة القضاء»، حسب الاتفاق مع قريش على ذلك، على ألا يستمر فيها لأكثر من ٣ أيام.
عمل من خلال أداء العمرة على كسر الحواجز، التى استمرت لسنوات مع قريش، اشتعلت خلالها ٣ حروب، من أجل أن ينشر السلام بينهم، ومن أجل تعريف أجيال قريش بالمسلمين عن قرب، لأن هناك من بينهم من ولد وكبر على كراهية النبى والمسلمين، وهذا كان أحد أسباب إسلام قريش يوم فتح مكة.
لم يتخلف أحد ممن حضر مع النبى صلح الحديبية، لإعادة الثقة فى النفوس بتحقق وعد الله، «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»، كان يهدف إلى ترسيخ الثقة بداخلهم.
لكن بعض الناس قالوا: يا رسول الله مالنا زاد ولا أحد يطعمنا، فأمر المسلمين أن ينفقوا فى سبيل الله، فقالوا: يا رسول الله بم نتصدق وأحدنا لا يجد شيئًا؟ فقال: بما كان ولو بشق تمرة.
بكى الصحابة لحظة دخولهم مكة، بكاء اشتياق إليها، كان خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص وعثمان بن طلحة يراقبون الوضع، وزعماء قريش يخشون من أن يحتك المسلمون بأهل مكة فيتأثرون بهم، فأرادوا أن يخلوا مكة من أهلها، فأشاعوا أن محمدًا وأصحابه مصابون بمرض معدٍ فخرجوا إلى الجبال خائفين.
بلغت النبى الشائعة فقال الصحابة: لو نحرنا فأكلنا من حلم الإبل وشربنا من مرقع، أصبحنا غدًا حين ندخل على القوم وبنا قوة، فقال النبى: لا تفعلوا ولكن اجمعوا إلىّ من أزوادكم فجمعوا وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحثا كل واحد منهم فى جرابه.
كان هناك إصرار من النبى على البساطة وليس التعالى والتفاخر، فاهتزت مشاعر خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة لما شاهدوا المسلمين يأكلون مع بعض، فهذا التواضع لا تعرفه قريش بين أغنيائها وفقرائها.
عند دخول مكة بدأ عبدالله بن رواحة ينشد:
خَلّوا بَنى الكُفّارِ عَن سَبيلِهِ ** خَلّوا فَكُلُّ الخَيرِ فى رَسولِهِ
يا رَبُّ إِنّى مُؤمِنٌ بِقيلِهِ ** أَنى رأيت الحَقَّ فى قَبولِهِ
فقال عمر: ما هذا يا ابن رواحة بين يدى رسول الله، وفى حرم الله تقول الشعر، فقال النبى: دعه يا عمر إنى أسمع فلهو أسرع فيهم من نضح السهام، كان مؤمنًا بتأثير القوة الناعمة وأنها أقوى من السلاح، فى حفر الخندق غناء وفى بناء المسجد غناء واليوم فى العمرة يسمع الغناء، لكنه الفن الذى يبنى ولا يهدم.
ثم قال النبى لابن رواحة، وارفع صوتك: لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
مع ذلك، رفض النبى أن ينزل بيتًا من بيوت المسلمين التى استولت عليها قريش، وإنما ضربت خيام فما استظل أحدهم بسقف بيت، وأخرج عضده الأيمن، ثم قال: رحم الله رجلًا أراهم من نفسه قوة، أمر المسلمين أن يرملوا ٣ أشواط يلبون، فقال الناس على رءوس الجبال: هؤلاء الذى زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا، ما يرضون بالمشى أما إنهم لينقزون نقز الظباء.
أمر النبى، بلال فى صلاة الصبح أن يؤذن من فوق ظهر الكعبة فأذن، فقال عكرمة: لقد أكرم الله أبا الحكم (أبا جهل) حيث لم يسمع هذا العبد ينعق من فوق الكعبة. وقال صفوان: الحمد لله الذى أذهب أبى قبل أن يرى هذا العبد الأسود، ومنهم من غطى وجهه، لكن النبى لم يُستفز ولم يعلق على كلامهم. والمفارقة أن الاثنين أسلما يوم فتح مكة.
لم ينس النبى، الحراس الذين يحرسون الأسلحة والعتاد خارج مكة، فأرسل من يقوم بمهمتهم ممن طاف وسعى مكانهم، وأثناء الطواف كان إلى جواره الوليد بن الوليد وهو من الصحابة، قال له: أين خالد.. وددت لو أسلم. لم ينشغل بما فعله فى أحد، لأن هدفه: بناء إنسان.. رحمة للعالمين.
فى تلك الأثناء، تزوج النبى بميمونة، وهى أخت أم فضل زوجة العباس، خالة خالد ابن الوليد وعبدالله بن عباس، وكانت مسلمة، وبقيت فى مكة وحيدة بعد وفاة زوجها، فتمنى العباس من النبى أن يتزوجها فوافق.
أراد النبى أن يتخذ من زواجه من «ميمونة»، وسيلة لزيادة التقارب بينه وبين قريش، فجاءه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبدالعزى، موفدين من قريش فقالا له: إنه قد انقضى أجلك، مضت الأيام الثلاثة فاخرج عنا.
فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «وما عليكم لو تركتمونى فأقمت عرسى بينكم وصنعنا لكم طعامًا فنأكل سويًا؟»، قالوا: لا حاجة لنا فى طعامك فاخرج عنا، فغضب سعد، وقال: كذبت لا أم لك ليست بأرضك ولا أرض أبيك إنها أرضنا لا يخرج منها إلا طائعًا راضيًا، فتبسم النبى، وقال له: يا سعد لا تؤذ قومًا زارونا فى رحالنا.
قال النبى: لا يمسين أحد من المسلمين بمكة وقام ركب ناقته، فما غربت الشمس وواحد من المسلمين فيها. تزوج النبى من السيدة ميمونة خارج مكة ( قرب التنعيم) بمنطقة اسمها «سرف» معروفة إلى الآن، وهى آخر من تزوج، وآخر من مات من نسائه بعده، وماتت ودفنت فى مكان عرسها.