رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إرادة السلام لدى النبى «٢-2»


أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفى «سيد ثقيف»، وكان يتسم بالدهاء، لأنه مفاوض متمرس خطير، أراد أن يستفز النبى والصحابة، كان يهدف تحويل التفاوض إلى صراع، فقال له: «يا محمد ما أراك قد جمعت إلا أوباش الناس والرعاع، وإنى أرى قريشًا لبست لك جلود النمور، يقاتلونك حتى آخر رجل، وإنى أرى هؤلاء غدًا (مشيرًا إلى الصحابة) سيتفرقون عنك».
قام أبوبكر بسبّه، فرد عليه: والله يا أبا بكر لولا فضلك علىّ ما سكت على إهانتك لى ولكن هذه بتلك، وأخذ يجذب لحية النبى، فى استفزاز له، وللمسلمين من أجل جرهم إلى الصراع، فغضب المغيرة بن شعبة.. قال الرجل: من هذا يا محمد؟، فأجابه: إن شئت فانتظر حتى أصلى وآتيك، هلم بالوضوء، فعاد عروة إلى مكة يقول: «يا معشر قريش خلوا بين الرجل وبين ما يريد».
وتحدث إليهم: «والله لقد دخلت على الملوك، دخلت على كسرى فى ملكه، دخلت على قيصر فى ملكه، دخلت على النجاشى فى ملكه، فما رأيت أحدًا يعظم أحدًا كتعظيم أصحاب محمد لمحمد، إذا تكلم نظر إليهم وخفضوا الرءوس، إلا رجلين ينظران إليه فيبتسمان، فيبتسم إليهما: أبوبكر وعمر».
كان النبى متمسكًا بالسلام إلى أبعد حد، كان يريد أن يجنب بلده العنف، وحتى لا يمزقه الصراع، «بلدى وإن جارت علىّ عزيزة، أهلى وإن ضنوا علىّ كرام».
يقرر إرسال عمر بن الخطاب لهم، فيقول له: اذهب لهم يا عمر، لكنه يرد: لست أنا الأنسب يا رسول الله، هم يعلمون شدتى عليهم، أرسل عثمان هو ليّن عليهم، الرسالة: لم آت لحرب بل للعمرة، وسأغادر مكة بعد المناسك وأعرض صلحًا للسلام.
استقبلوا عثمان بترحيب شديد، تعلقت عيناه وهو يدخل مكة بالكعبة، فعرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض حتى يطوف النبى أولًا.
احتجزوه أيامًا من أجل أن يدرسوا اتخاذ القرار المناسب، لأنهم مرتبكون أمام طريقة النبى الجديدة عليهم، فلما تأخر أُشيع أنه قُتل، وجاءت العيون للنبى تقول له إن عثمان قُتل، فغضب النبى للخيانة، بايعه الصحابة على القتال، «لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة»، ضرب النبى بإحدى يديه على الأخرى، وقال: هذه لعثمان، فأنا أبايع عنه.
لم يحارب النبى لمنعه من العمرة، لكن حارب لعثمان، لأن الإنسان أغلى من الكعبة، علمت قريش من عيونها أن النبى يستعد للقتال، فخافت، وعاد عثمان بسرعة.
كان قرارهم بالتفاوض، واختاروا سهيل بن عمرو كمتحدث باسم قريش، كان الشرط ألا يدخل النبى والمسلمون مكة، حتى لا تتحدث العرب أنه دخل عنوة.
رآه النبى، ابتسم، وقال: جاء سهيل، سهّل الله لكم الأمر، فهم الإشارة من اختياره: قد أراد القوم الصلح.
كان من شروط الصلح أن يعود النبى وأصحابه إلى المدينة، على أن يأتوا فى العام المقبل، وألا يبقوا بها إلا ٣ أيام، على أن يتم وقف الحرب بين الطرفين لمدة ١٠ سنوات، وأن «من أتى محمدًا من قريش من غير إذن وليه رده إليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يرد إليه».
وعلى الرغم من قسوة الشروط، والتنازل الذى سيقدمه المسلمون، فإن النبى قَبِل من أجل المحافظة على كبريائهم، خاصة فى عدم العمرة، حبًا لبلده واحترامًا لوطنه.
ثم قال الرسول لسهيل بن عمرو: «اكتب بيننا وبينك كتابًا»، فكتب على بن أبى طالب بسم الله الرحمن الرحيم، قال له سهيل: بل اكتب باسمك اللهم.
كان من الشروط أن تتم إعادة أبوجندل بن سهيل الذى فر فى قيوده هاربًا من المشركين لأبيه، قال سهيل: «فأجزه لى، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى، فافعل، قال: ما أنا بفاعل»، فأعاده النبى له، وقال: قال أبوجندل: يا معشر المسلمين، كيف أرد إلى المشركين وقد جئتُ مسلمًا، ألا ترون ما لقيت؟، فذهب عمر إلى أبى جندل وهز سيفه، وقال: إن الرجل ليقتل أباه فى الله.
غضب عمر: ألست نبى الله؟، فقال له النبى: إنى رسول الله، وهو ناصرى، ولست أعصيه، قال له: ألست كنت تحدثنا: إنا نأتى البيت، ونطوف به، بلى، أفـأخبرتك إنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، فأتيت أبا بكر، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق.
قال النبى للمسلمين: قوموا فانحروا، ثم احلقوا.. وما قام منهم رجل حتى قالها ثلاث مرات.. أم سلمة أشارت على النبى بأن يحلق أولًا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا.
نزلت سورة الفتح: «إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر»، فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم، قال عمر: ما كان فى الإسلام فتح أعظم من الحديبية.