رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انتهى الدرس يا ترودو


منذ سنوات وربما عقود ونحن نردد مصطلح «سياسة عض الأصابع» بين الدول، الذى يعنى ببساطة أن من يصرخ أولًا من الوجع يخسر، لكننا سمعنا لأول مرة ما يفيد بأن هناك سياسة جديدة ربما يصطلح على تسميتها سياسة «قطع الأصابع»، وذلك بعد ما قاله عادل الجبير، وزير الخارجية السعودى، حول الإجراءات الأخيرة، ردا على تدخلات كندا فى شئون بلاده، حيث قال إن المملكة العربية السعودية «لن تقبل بسياسة مد الأصابع الكندية فى سياستنا الداخلية».. وهو ما يعنى ببساطة أن السعودية ترفض مد هذه الأصابع وستقوم بقطعها إذا لزم الأمر.
ما فعلته السعودية تجاه التنطع الكندى والتدخل الممجوج فى شئونها، تحت شعار مشبوه هو حقوق المجتمع المدنى، أمر لم يتوقع الكنديون حدوثه بهذه الحدة وهذا الحسم، وهو أيضا أمر سوف يقفل أبواب الشرور التى تهب على دول المنطقة منذ أن هبت عليها رياح الربيع العربى الأسود، ومنذ أن استخدمت ورقة النشطاء- وأغلبهم عملاء ممولون من جهات غربية- فى إشاعة البلبلة والفوضى فى بلاد الشرق الأوسط.. لهذا قيل بشكل واضح إن السعودية «أرادت أن تكون كندا صندوق بريد ترسل به رسالة ليست لأوتاوا فقط ولكن إلى الغرب بأكمله، مفادها: لا يمكنكم إلقاء المحاضرات علينا».
لقد اشتعل فتيل الأزمة بعد تغريدةٍ من رئيس الوزراء الكندى جاستين ترودو، عبَّر فيها عن قلقه إزاء ما سماه «إلقاء القبض مؤخرًا على ناشطة حقوق المرأة فى السعودية»، التى كان لها أقارب فى كندا، وَدَعَا إلى الإفراج عنها.
وقد أعجبنى أن الرد السعودى جاء حازما قاطعا خلال ساعات، وكانت البداية بطرد السفير الكندى واعتباره شخصا غير مرغوب فيه، عليه مغادرة البلاد خلال ٢٤ ساعة، بعدها توالت القرارات الاقتصادية المؤلمة لكندا.
لقد جاء القرار بطرد السفير الكندى متوافقًا مع الأعراف الدولية، التى تمنع التدخّل فى الشئون الداخلية لأى بلد، إضافة إلى أن هذه الادعاءات التى جاءت على لسان وزيرة الخارجية الكندية والسفارة الكندية فى السعودية بشأن ما سمته نشطاء المجتمع المدنى الذين تم إيقافهم هناك، وحث السلطات على «الإفراج عنهم فورًا» منافية للحقيقة، وأنها لم تُبنَ على أى معلومات أو وقائع صحيحة، حيث تم إيقاف المذكورين من قِبل النيابة العامة وهى جهة الاختصاص، لاتهامهم بارتكاب جرائم توجب الإيقاف وفقًا للإجراءات النظامية المتبعة التى وفرت لهم جميع الضمانات خلال مرحلتى التحقيق والمحاكمة.‎
ويستطيع أى متابع أن يدرك أن هذه الغضبة السعودية الكبيرة لم تأت من فراغ، وأكبر دليل على ذلك هو حرص دول مجلس التعاون- ما عدا قطر- على تأييدها فى موقفها، وكذلك عدد آخر من الدول العربية، على رأسها مصر، التى عانت وما زالت تعانى من هذا السيناريو الردىء الذى يتكرر منذ ما عرف بالربيع العربى، حيث تستخدم الدول الغربية ورقة من يسمون الناشطين، للتدخل فى شئون دول منطقتنا، وكلنا يعرف دور مخابرات هذه الدول، التى تقوم بتجنيدهم لخيانة بلادهم مقابل المال، الذى يدفع إليهم فى صورة رواتب أو تحويلات لمنظماتهم المشبوهة، أو حتى فى صورة جوائز تحمل صفة الدولية، لها قيمة مالية كبرى كما فعلوا مع أسماء محفوظ وإسراء عبدالفتاح وتوكل كرمان وغيرهن.
علاقات الدول لا يمكن أن تبنى على هذا العبث، وإذا كانت بعض دولنا قد وقعت فى فخ الربيع العربى ونشطائه وجواسيسه فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وعلى الذين يفكرون فى تدمير دولنا من الداخل أن يعرفوا أنهم سيدفعون الثمن وسيندمون على محاولات هز استقرار المنطقة مرة أخرى.
لقد فعلتها السعودية وتضامنت معها دول المنطقة، وفى أقل من أسبوع كان الجميع قد فهم الدرس، وهذا ليس كلامنا نحن بل كلام خبراء غربيين أعلنوا ذلك صراحة فى وسائل الإعلام، من بينهم جورجيو كافييرو، الرئيس التنفيذى لشركة «جلف ستايت أناليتيكس» الاستشارية فى مجال المخاطر ومقرها واشنطن، الذى قال: «من الواضح أن هذه الرسالة ليست فقط إلى أوتاوا، بل هى رسالة إلى دول أوروبا وبقية دول العالم أن انتقاد المملكة العربية السعودية له عواقب».
كما قالت وكالة فرانس برس إن كندا تسعى عبر حلفاء لها من بينها ألمانيا والسويد، للبحث عن مخرج لها فى خلافها مع المملكة العربية السعودية، حيث تحدثت وزيرة الخارجية الكندية كريستيا فريلاند مع نظيريها فى الدولتين حول كيفية حلهما خلافهم مع السعودية، كما أعلنت أن أوتاوا تخطط للاتصال بالإمارات العربية المتحدة وبريطانيا للتوسط مع السعودية، التى هدد وزير خارجيتها عادل الجبير باتخاذ مزيد من الإجراءات ضد كندا، بعدما أمر بتحويل السفارة السعودية فى أوتاوا إلى غرفة عمليات تتابع شئون السعوديين الموجودين هناك.
لقد وصلت الفكرة، وتحولت كندا إلى صندوق بريد للرسالة السعودية القوية، الموجهة إلى كافة دول الغرب، ونحن من جانبنا نقول «انتهى الدرس يا سعادة رئيس الوزراء الكندى جاستين ترودو».