رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مدافع العرب وإسرائيل وإيران على «بوابة الدموع»


فى زمن العربدة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط، لا تدق طبول الحرب فجأة، ولا تهدأ بالمصادفة، فالأمريكيون كما عرفناهم يربحون مئات المليارات من فواتير الحروب التى يشعلونها بمنطقتنا باعتبارهم المصدر الأول للأسلحة، ويربحون أكثر من فواتير السلام باعتبارهم المقاول الأكبر لإعادة الإعمار.
اليوم تبدو طبول الحرب وكأنها تدق على باب المندب بسبب التهديدات الحوثية للملاحة، بأحد أهم الممرات الملاحية والتى تحمل ٧٪ من تجارة العالم، وهى تهديدات يعلم الجميع أنها فى الأصل إيرانية.. فالحوثيون ليسوا إلا ذراعًا لدولة الملالى التى تسعى لمد نفوذها وتهديداتها إلى البحر الأحمر.
لقد نجحت هذه التهديدات لأول مرة فى توحيد وجهة النظر العربية والإسرائيلية تجاه إيران، لأن المخاوف والمخاطر واحدة والعدو أيضًا كذلك، لكن هل يعنى ذلك إمكانية اندلاع حرب حقيقية بسبب التهديدات الإيرانية للملاحة فى مضيق باب المندب، أو «بوابة الدموع»، كما كان يسميه البحارة القدماء.
الذين يتابعون التحركات الساخنة حول باب المندب، يعرفون هذه الروايات القديمة حول تسميته بهذا الاسم، فقد كان أهالى البحارة يسمونه بوابة الدموع لشدة مخاطر الإبحار فيه بسبب الشعاب المرجانية، والجزر الصغيرة التى كانت تعترض السفن، وقيل إن أهالى البحارة كانوا يندبون من يجبره الرزق على الإبحار فيه، ولهذا سمى أحيانًا بوابة الدموع وفى أغلب الأحيان باب المندب.
وتزداد أهمية المضيق لأنه يسمح لشتى السفن وناقلات النفط بالعبور على محورين متعاكسين ومتباعدين، ويقدر عدد السفن وناقلات النفط التى تمر به فى الاتجاهين بحوالى ٢٥ ألف قطعة بحرية سنويًا، أى بمعدل ٦٨ قطعة يوميًا، وتذهب التقديرات إلى أن ما بين ٥ و٦٪ من إنتاج النفط العالمى، أى نحو ٤ ملايين طن، تمر يوميًا عبر باب المندب باتجاه قناة السويس، وحسب تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية فى عام ٢٠١٣، فقد بلغت كمية النفط التى تعبر يوميًا مضيق باب المندب قرابة ٣.٨ مليون برميل من النفط، أى ما يساوى ٦٪ من تجارة النفط العالمية.
هذه حقائق يدركها صانعو السياسة الأمريكية بوضوح، ويعزفون عليها هذه الأيام، وهم بالطبع لا يهتمون كثيرًا بمصالح الأطراف الأخرى، قدر اهتمامهم بمصالحهم أولًا وأخيرًا، وهذا ما يضع أمامنا سؤالًا ملحًا، هل يمكن أن تقوم حرب كبرى بين العرب وإسرائيل من ناحية وبين إيران من ناحية أخرى، بسبب تهديد الملاحة فى باب المندب؟ وهل تمتلك إيران فى حقيقة الأمر القدرة على تهديد أو قف الملاحة فى هذا الممر الملاحى الدولى المهم؟
حتى نجيب عن هذا السؤال علينا أن نناقش عدة حقائق موجودة على أرض الواقع:
أولى هذه الحقائق أنه عقب هجمات ١١ سبتمبر ٢٠٠١، وبالتحديد منذ فبراير ٢٠٠٢ تقوم فرقة «العمل المشتركة ١٥٠»، بتأمين مضيق باب المندب، وذلك تحت قيادة أمريكية، ومن المهم أن نعلم أن هذه الفرقة بمثابة تحالف كبير وقوى مؤلف من ٢٥ دولة، على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا، وقد تأسست لمراقبة السفن وفحصها والإنزال عليها والسماح بمرور أو إيقاف الشحنات المشتبه بها لمواصلة «الحرب على الإرهاب» فى منطقة القرن الإفريقى وفى بحر العرب.. فهل يعجز تحالف بحرى بهذا الحجم عن وقف أى تهديدات إيرانية فى التو واللحظة؟
ثانيًا: إن الولايات المتحدة قامت بإنشاء قواعد عسكرية بالقرب من المضيق، أهمها قاعدة جيبوتى العسكرية والتى تقع من جهة الضفة الغربية للمضيق، لأنها وإن كانت تظهر عدم حاجتها لنفط الشرق الأوسط، إلا أنها بالتأكيد تحتاج نقاط عبور تخدمها من الناحية العسكرية فى صراعها فى المنطقة لا سيما مع الصين وإيران.
والحقيقة الواضحة أيضًا أن إيران، كما يعرف كل الخبراء العسكريين، لا تمتلك قوة بحرية تمكنها من الوصول إلى باب المندب وتشكيل تهديد مباشر للملاحة به، وأن الحوثيين يمتلكون قطعًا بحرية صغيرة قدمتها إليهم إيران، وهى التى نفذت الهجوم الأخير على ناقلتى النفط السعوديتين، ما دفع السعودية لإعلانها وقف نقل النفط عبر باب المندب.
وهناك حقيقة يدركها الجميع أن الولايات المتحدة هى التى تقف منذ بداية معركة تحرير الحديدة، التى تخوضها قوات التحالف العربى بقيادة السعودية، للحيلولة دون اقتحام المحافظة والقضاء نهائيًا على بقايا الحوثيين هناك، وهو ما يعنى القضاء نهائيًا على أى تهديدات حوثية للملاحة فى جنوب البحر الأحمر بشكل عام، وفى باب المندب على وجه الخصوص.
إذن فالتهديدات التى تسوق لها ماكينة الإعلام الأمريكية الضخمة، مبالغ بها بشكل كبير، ولا تعكس حقيقة ما يدور على الأرض، ولو أرادت الولايات المتحدة أن تضع حدًا لهذه التهديدات لفعلت ذلك بشكل حاسم وسريع، أو لسمحت- على أقل تقدير- بإنهاء الوجود الحوثى فى مدينة وميناء الحديدة.
الحكاية إذن هى حرب - تبدو إعلامية- بين واشنطن وطهران، على غرار ما حدث بين واشنطن وبيونج يانج، من أجل الضغط لتحقيق مكاسب للجانب الأمريكى، وهو ما أدى فى النهاية إلى عقد قمة ترامب وكيم جونج أون فى سنغافورة خلال يونيو الماضى، وها هى واشنطن تكرر نفس السيناريو، فى ظل تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الذى ألغى الاتفاق النووى مع إيران من جانب واحد، ثم عاد ليعلن أنه يمكن عقد اتفاق جديد مع إيران التى «تغيرت» سلوكياتها كثيرا مؤخرًا!
كل احتمالات المواجهة تبدو من الناحية العملية والواقعية غير قائمة، حتى وإن أعلنت دول وقف تصدير النفط مؤقتًا من باب المندب، أو أعلنت أطراف كثيرة أنها ستحرك قطعها العسكرية، لوقف التهديدات الإيرانية بأى ثمن، إلا أننا فى حقيقية الأمر أمام حرب إعلامية يقودها الكاوبوى الجالس حاليًا فى البيت الأبيض، والذى يعتقد أنه يستطيع من خلال الضغوط المستمرة أن يحقق أقصى مكاسب ممكنة لإدارته، كما يؤمن أيضًا بأن تأجيج وتغذية التوترات هو أفضل وسيلة لجنى الأرباح، حتى لو أدى الأمر إلى إشعال حرب أو عدة حروب، فقد أدمن لعبة جنى الأرباح فى زمن الحرب وفى زمن السلام.