رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البيان الفاصل بين مشهدين


منذ خمس سنوات وفى مثل هذا اليوم، غادرت مكتبى بوزارة الإعلام متجهًا إلى ميدان عبدالمنعم رياض، وقبل أن أغادر قابلت زملاء لى قالوا إن وزير الإعلام متوتر للغاية وينظر بريبة إلى كل من حوله.. وفى طريقى للميدان كان الزملاء من أبناء ماسبيرو يتجهون فى طريقهم إلى الميدان، ربما هم نفس الوجوه التى خرجت فى ٢٥ يناير، ولكن فى عيونهم يبدو إصرار غريب على استعادة ما سرق منهم.. عادوا إلى الميدان بعد أن سرقت منهم آمالهم التى حلموا بها فى يناير ٢٠١١.. المرة الأولى غرر بهم ثم ركبوا موجة الثورة التى تحولت إلى وسيلة سريعة لعودة الإخوان إلى الصورة.
لم يكن هؤلاء فقط هم الذاهبون إلى الميدان، بل كان هناك المئات من الأسر التى أراها لأول مرة.. الأب وأولاده.. الأم وصديقاتها، نادانى عبداللطيف أبوهميلة وهو جالس على الرصيف أمام بابريكا وهو يبتسم سائلًا: أنت رايح الميدان؟ هو يختلف معى فكريا وسياسيا، لكن شيئا ما كان يجمع مصر كلها فى تلك الأيام.. كان الهدف هو استعادة مصر من الإخوان.. فى الميدان كانت الصديقة الإعلامية كريمة عوض، العائدة من إسطنبول إلى الميدان وعصام الأمير وعلى عبدالرحمن المستقيلان من اتحاد الإذاعة والتليفزيون احتجاجا على أخونة الاتحاد وقطاعاته.. كان الراحل عزازى على عزازى يجلس أمام دوحة ماسبيرو ينتظر زملاء ليصعد إلى إحدى القنوات الفضائية.. فى الطريق إلى شامبليون حيث يجلس الأصدقاء خالد حنفى وعبدالفتاح على مع عم محمد وردة أمام كشك الورد الخاص به.. الشوارع كانت تمتلئ باليسار واليمين.. كل التيارات السياسية والطوائف والأسر.. الكل يحمل صور وزير الدفاع وعلم مصر، ونداء واحد «انزل يا سيسى».. فى الناحية الأخرى من القاهرة كانت هناك تحركات أخرى من رجال قرروا أن يحملوا أرواحهم على أكفهم وأن يجعلوا هدفهم هو تحقيق أمل الشعب وحلمه فى أن يستعيد دولته.
وفى أماكن أخرى كان الإخوان يحتلون ميدان رابعة العدوية «الشهيد بركات» والنهضة أمام الجامعة ويحاولون الوصول إلى ميدان المطرية وميادين أخرى.. كان المشهد فى مصر قد تحول إلى ميدانى التحرير ومصطفى محمود وغيرهما الممتلئة بثوار مختلفين.. هم أسر مصرية كاملة لا تخشى شيئا.. هتافاتهم هذه ليست ضد الشرطة ولكن معها.. قوات الجيش تحيط بهم لتحميهم.. أملهم معلق بمبنى وزارة الدفاع ووزيرها.
ظللنا طوال ٧٢ ساعة ويسألنا الآخرون: متى البيان؟.. بعد ساعة.. بعد قليل.. تأخر كثيرا.. قلق وأمل.. قلق من فشل كل هذه التحركات وأمل أن يسمع الشعب بيان القائد العام للقوات المسلحة.. وفى المساء كانت الشاشات التى ملأت الميادين والمقاهى والأندية تنقل الخبر الذى انتظرته مصر والعالم كله.. الجيش وقف مع الشعب والشرطة.. جميعا أنهوا الكابوس وانتقل مرسى من القصر إلى الحبس لتبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ مصر.
وبعد سنوات خمس نسأل: ماذا لو لم يكن عبدالفتاح السيسى قد استجاب لنداء الشعب؟.. ماذا لو فضل أبناء القوات المسلحة راحتهم وأمنهم على الاستجابة لنداء الشعب؟.. ماذا لو تأخر البيان ونجح اعتصاما النهضة ورابعة؟.. تخيلوا المشهد ونحن نجلس أسرة كاملة بملابس قطنية تنفيذًا لتعليمات رئيس الوزراء بجوار مروحة تدور ساعة وتتوقف ساعات لانقطاع التيار.. ونشاهد طابورا طويلا أمام مستودع الغاز وآخر أطول منه أمام المخبز ومشاجرات فى محطات تموين الوقود ولجانا شعبية تحل محل الشرطة يشرف عليها ملثمون ومسجلون خطرا.. لا تخرج ببناتك إلى الشارع خوفا عليهن ولا تذهب لعملك فى موعده لأن المواصلات تتوقف.. قناصة الإخوان يحتلون الكبارى ويغلقون الأنفاق.. لا تستطيع السفر من القاهرة للإسكندرية فى الصيف، لأن أولى الأمر ينهون عن المصايف ولن تستطيع الذهاب إلى السينما لأنها أغلقت وعن.. وعن.. وعن..!.
كانت سيناء ستمتلئ بالفلسطينيين لا زيارة ولكن أصحاب ملك، وتذهب إلى النوبة حاملا جواز سفرك وكذا حلايب وشلاتين.. كان المشهد سيمتلئ بالأكثر سوادا وألما.. ولكن البيان الذى جاء مبشرا وحاسما وباعثا للأمل أنهى كل ذلك والقائد العام يتلوه وسط شيخ الأزهر والبابا وممثلى الجيش والشعب.. وتغير المشهد.. كهرباء لا تنقطع بعد إنشاء محطات التوليد العملاقة.. الغاز يذهب إلى المنزل.. محطات الوقود لا يوجد بها انتظار.. طريق رائع آمن للإسكندرية ومدن القناة.. سيناء تربطها الأنفاق بالوادى والأبطال هم من ينتشرون فيها.. الجنوب ينتظر عشرات المشروعات، والشمال يزدهر بالمدن الجديدة..الأمن يعود إلى شرق البلاد والاستثمار يزحف إلى غربها.. محطات تليفزيونية جديدة وإذاعات ومحميات للسينما وشركات.. مصانع تعود للعمل ومدن تمتلئ بالأمل.
شتان بين المشهدين لو لم يصدر البيان وما بعد صدور البيان.. تحقق الحلم والأمل، وبدء العمل الخطوة الأصعب، والأهم أن نبنى الوطن.. منذ خمس سنوات تحدى السيسى الإخوان وفضل الوطن على أمنه وحياته واستجاب للشعب.. وبعد أربع سنوات من توليه مقاليد الحكم أعاد الثبات لأركان الدولة وشق الطرق وأنشأ المدن وبدأ فى تحويل العشوائيات إلى مناطق تحافظ على كرامة المصرى.. ويبدأ اليوم مرحلة جديدة هى بناء الإنسان عبر عناصر ثلاثة: الصحة والتعليم والثقافة.. إنها بالعقل المرحلة الأصعب، المنزل يحتاج إلى شهور ليعلو ويُسكن، والكوبرى كذلك، والطريق ربما لعام يشق ويرصف، أما الإنسان فيحتاج إلى سنين طوال ليُبنى ويحمى الوطن.. المرحلة الأصعب بدأت وعلينا أن نتحمل، فالمشهد القادم سيكون الأفضل يوم نستطيع أن نقدم أجيالا جديدة تنظم وطنا أعيد بناؤه وحافظ على كرامته وكبريائه.. القادم أفضل والشعب المصرى قادر على صنع الأفضل.