رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يستحيل الهروب من محكمة التاريخ!


فى أزمة ما يعرف بـ «سد النهضة»، اتجهنا إلى عقد حوار من غير مختصين، ودون تحضير جيد فكانت المهزلة على موجات الأثير وشاشات التليفزيون، أو كما يقولون «فضيحة بجلاجل»، ثم إننا نجد حديثا عن أن كل الخيارات مفتوحة، وعن مؤتمر وطنى والاستعداد للذهاب إلى أى مكان مما يذكرنا بمقولة الرئيس الأسبق أنور السادات حينما مهد لزيارة القدس فيما عرف بمبادرته.

يبدو أن الحكم فى مصر يلجأ إلى الهروب من مواجهة الأزمات بدلاً من مواجهتها، وقد بدا ذلك واضحاً أخيراً فى عدة قضايا، منها قضايا الأمن فى سيناء، وقضية حقوق أفراد القوات المسلحة فى الانتخاب والاستفتاء، ومنها مواجهة نتائج إقامة إثيوبيا ما عرف بسد النهضة على النيل الأزرق وآثاره على حقوق مصر المائية. ومن المعروف أن هناك أساليب فى مواجهة الأزمات، فهناك التصدى للأزمة وتقديم الحلول وهو أفضل الأساليب حيث لا يترك ذيولاً للأزمة، ويتم حلها إما جذرياً أو جزئياً حسب نوع الأزمة، ولكن هذا الأسلوب ليس دائما متوفرا، حيث يتطلب قدرات وإمكانيات ليست دائما ممكنة، سواء قدرات القيادة المتصدية للأزمة، أو الإمكانيات المتوفرة لدى البيئة المحيطة بالأزمة. وهناك أسلوب الالتفاف حول الأزمة بالاتجاه لمعالجة جزئية دون التصدى للب الأزمة أو المشكلة موضوع الأزمة، وهناك ما يقال عن الهروب للأمام بتصعيد الأزمة بدلاً من حلها، دون أن تكون هناك قدرة على الحل.

فى قضية، أو فى الحقيقة قضايا، الأمن فى سيناء نجد أننا أعلنا عن عملية «النسر» فى أعقاب مقتل جنود وضباط من القوات المسلحة فى رفح، ثم وجدنا العملية تتشتت بين هدم الأنفاق، ومكافحة الإرهاب، دون أن نصل حتى الآن إلى تحديد القتلة وتقرير مصيرهم، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، ولكنا وجدنا صورة أخرى حينما جرى اختطاف جنود من الأمن وجندى من القوات المسلحة واحتجازهم لفترة، ولقد سعدنا قطعاً بعودة الجنود وإطلاق سراحهم، لكننا لا نستطيع أن ننسى أن الخاطفين ما زالوا مطلقى السراح، ولا نعرف شيئاً عن جهود القبض عليهم، مما أدى إلى استمرار أحداث الإرهاب وتحدى سلطة الدولة فى سيناء ومقتل ضباط وجنود فى سيناء، ويرجع ذلك إلى غياب خطة واضحة لفرض الأمن فى سيناء، أو على الأقل الاعتراف بالصعوبات وتحديد مطالب حل الأزمة.

وفى قضية حق أفراد القوات المسلحة والشرطة فى الانتخاب نجد أننا قد توصلنا إلى حل خلاصته هى تأجيل ممارسة هذا الحق نحو سبعة عشر عاما لكنه أقرب إلى التأجيل لأجل غير مسمى، ويذكرنا بقصة جحا والسلطان والحمار والتى اعتمد فيها جحا على احتمال وفاة أحد الثلاثة قبل أن يحل الأجل. وبدلا من أن يتركز المجهود لحل المصاعب التى تكتنف ممارسة الحق كما حدث حيال حق المواطنين بالخارج، فقد اتجهت الجهود إلى تبرير التأجيل. أى أننا هربنا من المشكلة إلى التأجيل!

فى أزمة ما يعرف بـ «سد النهضة»، اتجهنا إلى عقد حوار من غير مختصين، ودون تحضير جيد فكانت المهزلة على موجات الأثير وشاشات التليفزيون، أو كما يقولون «فضيحة بجلاجل»، ثم إننا نجد حديثا عن أن كل الخيارات مفتوحة، وعن مؤتمر وطنى والاستعداد للذهاب إلى أى مكان مما يذكرنا بمقولة الرئيس الأسبق أنور السادات حينما مهد لزيارة القدس فيما عرف بمبادرته، وهنا تبدو الأمور كما لو كنا نهرب من مواجهة لب الأزمة ونسعى إلى علاج بعض أعراضها، وربما محاولة الالتفاف حول ما تقوم به حركة «تمرد» بالسعى إلى تجميع القوى قبل الموعد، فلا تجد الحركة المعارضة لها نصيرا بحجة الاصطفاف فى مواجهة الخطر على الأمن القومى. فليست المشكلة الآن فى تشتت القوى فى مصر، وإنما فى الوصول إلى القرار الصحيح لمعالجة الأزمة أولا.

ربما كانت القضايا السابقة هى البارزة حاليا لكن يمكن القول إن أسلوب الهروب مستمر منذ فترة طويلة، ويختلف اتجاه الهروب فقط، فقد يكون الهروب إلى الخلف، وقد يكون الهروب إلى الأمام، فلا من ينتمون إلى التيار الإسلامى راضون، فهم يرون أن الدولة الإسلامية لم تتحقق، ولا دعاة الدولة المدنية راضون، نتيجة لقرارات رجعية باسم الإسلام. هكذا تبدو الأمور وقد توقفت. الوعود بإعادة المحاكمة تؤدى إلى أحكام بالبراءة وإخلاء السبيل، وقرارات الإعلان الدستورى أدت إلى إلغائه، والتهاون فى مواجهة الجريمة أدى إلى تذمر رجال الشرطة، بل وأدى على ما أظن إلى إضراب من الشرطة، وأعتقد أنه آن الأوان لوضع خطة لتحقيق الأمن فى سيناء وأن تشترك فيها كل الجهات المختصة والمعنية وبإشراك القيادات السياسية والقبلية والإدارية لمعاونة الشرطة والقوات المسلحة، وأظن أن القوانين كافية لكن المهم تطبيقها نصاً وروحاً، وبمحاسبة المسئولين أيا كانوا. أما المطالب الفئوية فهى فى ازدياد مستمر!

وبالنسبة لقضية مياه النيل فأظن أن الخطوات التى اتبعت اتسمت بالتعجل والهروب من مواجهة المشكلة إلى محاولة القفز إلى إجماع شعبى وسياسى رغم أننا لم نصل إلى الحل المطلوب الوصول إلى إجماع عليه. والآن يجب الانشغال بالتحضير الجيد لاتخاذ القرار أولاً بالقيام ببعض الإجراءات العاجلة التى تستهدف الاحتفاظ بحقوق مصر، ثم الدراسة التفصيلية للموضوع بحيث تتوفر المعلومات المطلوبة لاتخاذ القرار، ثم اتخاذ الخطوات اللازمة لبلورة القرار الذى لا بد أن يشتمل على إجراءات سياسية وقانونية ودبلوماسية واستعدادات عسكرية، ثم يمكن بعد ذلك اتخاذ القرار المطلوب، وحينئذ فقط، يمكن الدعوة إلى مؤتمر وطنى لدراسة القرار والتصديق عليه ويصبح ملزماً لكل مصر، أما الدعوات الحالية فهى بمثابة تحركات سياسية تؤدى إلى الهروب من المشكلة وربما تقطع الطريق على الحل السليم. هنا قد يبدو أن من اللازم الإسراع بإشراك جميع القوى للاجتماع حول جدول أعمال واضح لمواجهة الأزمات المختلفة وأقصد الإشراك وليس مجرد الإخطار، حيث تشارك فى تحمل المسئولية.

قد يتطلب مما سبق الاستعداد لعقد مؤتمر وطنى جامع لمناقشة الوضع الوطنى والقومى والخروج بنظام لا يتعارض قطعا مع الشريعة الإسلامية، ولكنه يخرج عن محاولة إعادة عجلة الزمن إلى الوراء وإغفال ما حققته البشرية خلال ألف وخمسمائة عام تقريبا، ولا هو حادث من هروب من الأزمة، كما لا بد من أن نصل إلى اتفاق عام بأن أحدا لا يمتلك وحده الحقيقة ولا أحد يمتلك حق تفسير الشريعة الإسلامية وفقا لتصوره، وأن أحداً لا يحق له تكفير الآخر.

وانعقاد المؤتمر يحتاج إلى تحضير جيد خاصة بجدول الأعمال وأسلوب إدارة النقاش وكيفية الوصول إلى قرار، بالإضافة إلى تحديد من يحضره وأسس الحضور، وهى أمور افتقدتها القرارات فى الفترات السابقة، وفى هذا السياق أظن أن كل القضايا يمكن حلها إذا نظرنا إليها نظرة وطنية وليست فردية ولا شللية أو عشائرية..

فى ضوء ما سبق يمكن تصور حل كل المشكلات السابقة حيث يشترك الجميع فى حل الأزمة التى تمر مصر بها، والتى لم تمر بمثلها منذ آلاف السنين وسيتحمل الجيل الحالى مسئولية ما سيحدث أمام التاريخ، وإذا كان من الممكن خداع أحد وإخفاء الهروب من الأزمة، فإن الهروب من محكمة التاريخ مستحيل.

■ خبير سياسى واستراتيجى