رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على مبروك يكتب: تفكيك أكذوبة عدم جواز ولاية غير ‏المسلمين

على مبروك
على مبروك

إذا كان المقال السابق قد كشف عن الحضور الطاغى لفعل القراءة، ‏ حتى فى حال اكتفاء المرء بمجرد ترديد آيات القرآن- فإنه يلزم التأكيد على أن القرآن يصبح، عبر هذا ‏الفعل موضوعًا لضروب من التوجيه (الناعمة والغليظة) التى لا تكون فى غالب الأحوال موضوعًا لوعى الممارسين لها.‏

ويتحقق هذا التوجيه ليس فقط عبر إنطاق وإسكات دلالات بعينها ينطوى عليها القرآن، بل عبر ما يبدو، وكأنه إبدال الدلالات التى فرضها التاريخ بتلك التى يتضمنها القرآن. ولعل مثالًا على هذا الضرب ‏الأخير من التوجيه، الذى يجرى فيه استبدال دلالة التاريخ بدلالة القرآن، يأتى من قراءة آية قرآنية تنشغل بتعيين معنى المسلم والإسلام، وبما لذلك من تعلق مباشر بمسألة عدم جواز ولاية غير المسلمين، ‏وأعنى بها قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام. فالدلالة المستقرة، فى وعى الجمهور، للآية تنبنى على أن معنى الإسلام ينصرف إلى ذلك الدين الذى ابتعث به النبى الكريم محمد، وبما لا بد أن يترتب على ‏ذلك من أن المسلمين هم -وفقط- أتباع هذا النبى الكريم. ولسوء الحظ، فإن هذه الدلالة التى استقرت، فى وعى الجمهور، للفظتى إسلاممسلمين تمثل تضييقًا أو حتى نكوصًا عن الدلالة التى يقصد إليها ‏القرآن خلال استخدامه لكلتا اللفظتين. بل إن اختبارًا لهذا الاستخدام القرآنى يكشف عن أن هذه الدلالة المستقرة للفظتى إسلاممسلمين تكاد أن تكون قد تبلورت وتطورت خارج القرآن، على نحو شبه كامل. ‏وإذن، فإنها تبدو أقرب ما تكون إلى الدلالة الاصطلاحية، التى تمتزج فيها المقاصد الواعية وغير الواعية لمن اصطلحوا عليها، وعلى النحو الذى تعكس فيه عناصر تجربتهم التاريخية، ولو كان ذلك على ‏حساب القرآن ذاته.‏
فإذ تنبنى الدلالة الاصطلاحية على صرف معنى لفظة مسلمين مثلًا، إلى أتباع النبى محمد فحسب، فإن الدلالة السيمانطقية، الغالبة على الاستخدام القرآنى لتلك اللفظة ذاتها، لا تقصر المعنى على هؤلاء ‏فقط، بل تتسع لتشمل غيرهم من أتباع الأنبياء السابقين أيضًا. وهكذا، فإن اللفظة مسلمونمسلمين قد وردت، فى القرآن، حوالى ست وثلاثين مرة، انطوت فيها، فى الأغلب، على دلالة تسليم المرء وجهه ‏لله، من دون أن يكون ذلك مقرونًا بأتباع نبى من الأنبياء بعينه. بل إن بعض الآيات يستخدم لفظة مسلمونمسلمين صراحة، للإشارة إلى من هم من غير أتباع النبى محمد. ومن ذلك، مثلًا، إشارته إلى بنى ‏يعقوب باعتبارهم من المسلمين، وذلك فى قوله تعالى: «أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدًا ونحن له ‏مسلمون» البقرة: ١٣٣، والحق أن المرء يكاد يلاحظ أن القرآن يكاد، على العموم، أن يصرف دلالة اللفظة إلى فعل التسليم لله، وذلك فيما تلح الدلالة الاصطلاحية على صرف الدلالة إلى أتباع نبى من ‏أنبياء الله بالذات.‏
وتبعًا لذلك، فإنه إذا كان غير المسلم هو بحسب دلالة الاصطلاح المستقرة، فى وعى الجمهور كل من لا يتبع دين النبى محمد، فإنه، وبحسب الدلالة المتداولة فى القرآن، هو كل من لا يسلم وجهه لله، ‏وبما لا بد أن يترتب على ذلك من أن كل من يسلم وجهه لله حقًا، هو من المسلمين، حتى ولو لم يكن متبعًا لدين النبى الخاتم. وإذ يفتح ذلك الباب أمام إدخال البعض ممن يقال إنهم من غير المسلمين إلى دين ‏الإسلام، ابتداء من تسليمهم الوجه لله، فإنه سوف يفتحه بالمثل أمام إخراج الكثيرين ممن يقال إنهم من المسلمين، من دين الإسلام، لأنهم لا يعرفون الإسلام بما هو تسليم الوجه لله، بل بما هو قناع لتسليم الناس ‏أو حتى استسلامهم لهم، بدلًا من الله. فإنه إذا كان القصد من تسليم الناس وجوههم لله وحده، هو تحريرهم من الخضوع لكل آلهة الأرض الزائفة، فإن ما يجرى من تحويل الدين إلى قناع لاستعباد الناس ‏وتيسير السيطرة عليهم لا يمكن أن يكون من قبيل الإسلام أبدًا.‏
ولعل ذلك يكشف عن عدم انضباط مفهوم غير المسلم، وأعنى من حيث تبقى المسافة قائمة بين المعنى الذى يصرفه إليه القرآن من أنه زمن لا يسلم وجهه لله وبين المعنى الذى فرضه عليه التاريخ من ‏أنه زمن لا يتبع نبوة محمد، عليه السلام. وبالطبع فإنه لا مجال للاحتجاج بأن معنى الإسلام، بما هو تسليم الوجه لله، قد تحقق على الوجه الأكمل مع نبوة النبى الخاتم محمد، فإن القرآن يتضمن بين جنباته ما ‏يزحزح هذا الاعتقاد، وذلك حين يمضى إلى أن ثمة من اليهود والنصارى والصابئة من يتشارك مع المؤمنين بنبوة محمد عليه السلام فى تسليم الوجه لله حقًا، وأنهم لذلك لهم أجرهم عند ربهم.. ولا خوف ‏عليهم ولا هم يحزنون. إذ يقول تعالى: إن الذين آمنوا (يعنى بمحمد) والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم.. البقرة:٦٢. وهكذا فإن القرآن لا ‏يقصر معنى الإسلام بما هو تسليم الوجه لله حتى بعد ابتعاث النبى محمد على المؤمنين بنبوته فحسب، بل إنه يتسع به ليشمل غيرهم أيضًا. وغنى عن البيان أن ذلك يرتبط بحقيقة أن مدار تركيز القرآن هو ‏على فعل تسليم الوجه لله وحده وليس على الباب الذى يتحقق من خلاله هذا الفعل، وحتى على فرض أن القرآن يمضى إلى أن الباب الأكمل لتحقق هذا الفعل هو باب النبى محمد، فإنه لم يدحض إمكان ‏تحققه من غير هذا الباب أيضًا.‏
يبدو، إذن، أن التاريخ، وليس القرآن، هو ما يقف وراء تثبيت الدلالة المستقرة للآية القرآنية إن الدين عند الله الإسلام وهو ما يدرك من يستدعى هذه الآية أنه سيلعب دورًا حاسمًا فى توجيه المتلقين لها إلى ‏إنتاج ذات الدلالة المستقرة. وهو يدرك أيضًا أن إثارة المعنى السيمانطيقى المتداول فى القرآن للفظة إسلام ستؤدى، لا محالة، إلى زحزحة الدلالة التى قام التاريخ بترسيخها، ومن هنا فإنه يسكت عنه تمامًا، ‏رغم ما يبدو من ظهوره الجلى فى القرآن. فهل يدرك المتلاعبون سياسيًا بالإسلام أنهم ينحازون للتاريخ على حساب القرآن؟.‏