رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: سيد عويس.. مطاردات حسن البنا لصاحب «هتاف الصامتين»


- سيد عويس كان يرى حسن البنا باحثًا عن السلطة وليس الدين
- عويس التحق بـ«الجمعية الشرعية» لكنه اكتشف زيفها

تستطيع أن تعتبر عبارة «كله شمال يا صاحبى»، التى تتكرر كثيرًا على ظهر «التوك توك» تحديدًا دون غيره من وسائل النقل، رسالة يحاول صاحبها أن يبرر التصرفات المستفزة واللا أخلاقية لمعظم أبناء هذا الكار الجديد، فإن كان هو لا يعجبك فى سلوكه الظاهر فالكل شمال فى الباطن، وليس هو الوحيد فى هذا الأمر.

الحقيقة أننى لا أعرف أى شيطان جاء ليهمس فى أذن الدكتور «سيد عويس» بهذا الاسم: «هتاف الصامتين»، فأنت أمام تنغيم صوتى يثير الشجن ويرسم صورة لبشر فقدوا اللسان وعجزوا عن النطق فراحوا يرسمون الكلام ويحفرون الآهات والشكوى ويستغفرون بالليل وأطراف النهار، وهذا تقريبًا هو مضمون الكتاب الخالد الذى ظهر أوائل السبعينيات، فما تقرأه اليوم على ظهر «التوك توك» وسيارات النقل والموتوسيكلات من «التقدير ضيعنا كتير، وصاحبت ندل، لو كان الرزق بالجرى ماكانش حد حصلنى، دى قصة كفاح مش جاية على المرتاح، لما كنت عصفور أكلونى ولما بقيت أسد صاحبونى»- هو ميراث أجدادك من المصريين العباقرة الذين اختصروا الحكمة والفلسفة فى تعبيرات تعكس مزاجهم ورؤيتهم للمجتمع والناس على رأى الأستاذ سمير صبرى، أما سيد عويس فهو رائد علم الاجتماع الذى سبق الجميع بدراسة وتحليل تلك التعبيرات الشعبية، بعد أن تجول فى القرى والمحافظات وسجل العبارات المكتوبة على المركبات والحافلات ووضعها فى كتابه المهم، راصدًا أحوال المصريين عقب هزيمة يونيو ١٩٦٧ من خلال هذا الجهاز الإعلامى الشعبى، الذى يسكن الحوارى والأزقة ويعكس ظروف معيشتهم الاجتماعية والثقافية، فقد كان التعالى على هؤلاء المنسيين جزءًا من النكسة، كما يقول سيد عويس، ودراسة أحوالهم وتحليل أفكارهم غاية فى الأهمية للباحثين عن مستقبل أفضل لبلادنا.
ولا أستطيع أن أصف لك سعادتى بالعثور على مذكرات سيد عويس «التاريخ الذى أحمله على ظهرى» لكنها سعادة تبخرت سريعًا، فقد أصابنى الملل وكدت ألقى بالمذكرات من الشباك لما بها من حكايات عائلية باردة وأحداث عادية جدًا، حتى لمحت اسم حسن البنا، فما الذى جمع الشامى على المغربى؟ وأيقنت أن فى الأمر مصيبة تتعلق بدهاء البنا ومكره الشديدين!، فواصلت القراءة حتى عرفت أن التاريخ الذى يحمله سيد عويس على ظهره كان ثقيلًا جدًا بسبب هذا الشخص وأقرانه من البذور الشيطانية الأولى لجماعة الإخوان.
والقصة تبدأ عقب فشل ثورة ١٩١٩، حيث انزوى عدد من الشباب المصريين واختار بعضهم التدين كوسيلة يحتمى بها بعد ضياع الحلم بتحرير البلاد، وكان سيد عويس واحدًا من هؤلاء الذين اعتكفوا على قراءة القرآن والأذكار وجمّع حوله عددًا من الأصدقاء، منهم الكاتب خالد محمد خالد والتحقوا جميعًا بالجمعية الشرعية التى أسسها الشيخ محمود خطاب السبكى سنة ١٩١٣ على أساس الولاء المطلق للتصوف فى البداية، ولكن فى ١٩٢٦ اتخذت مؤلفاته طابعًا جديدًا تحت شعار الدفاع عن السنة، وعلى طريقه سار ابنه الشيخ أمين، ولم يهتم سيد عويس بكل ذلك قدر اهتمامه بمساعدة المجتمع من الفقراء والمحتاجين وانخرط فى الجمعية ونشاطها تمامًا، فأطلق لحيته وأخلص لفكرة مساعدة الناس كجزء من رسالته فى الحياة، وسعى إلى تأسيس فرع للجمعية بميدان السيدة نفيسة، لكنه فوجئ خلال تلك الرحلة بأن الغرض أصبح مرضًا عضالًا، وأن الجمعية تدور فى فلك أتباعها وترى المجتمع كله فاسدًا يستحق العذاب!، كما أن العدل غائب تمامًا داخل هذه الجماعة، فقد حدث أن توفى أحد الأعضاء وكان رجلًا ثريًا وأوصى الورثة بالتبرع بأثاث أحد قصوره الفخمة للجمعية على أن يباع ويتم توريد ثمنه إلى خزينة الجمعية
وتقرر تشكيل لجنة لهذا الأمر، ولكن سيد عويس يحكى صدمته عندما فوجئ بأن الشيخ أمين يحجز «السرير» لأهل بيته!، وكان قد لاحظ أن الشيخ أمين يستمتع بتحويل أتباعه إلى خدم وعبيد يستقبلونه بتقبيل يده وتهيئة مجلسه، ولم يحتمل عويس بمثاليته الزائدة كل هذه الأمور، فقرر أن يفارقهم بأدب واحترام وتغيير مسار حياته عام ١٩٣٧ فحلق ذقنه وشاربه وعاد كما كان، لكنه لم ينجح فى الإفلات من الجماعة وأعضائها الذين حاصروه واستدرجوه إلى منزل أحدهم وراحوا يعاتبونه على ما فعل: «واشتدت لهجتهم معى من العتاب إلى التنديد ووضعونى فى قفص الاتهام ونصّبوا أنفسهم حكامًا»، فلم يعد إليهم، لكنه اقترح عليهم افتتاح فرع جديد للجمعية يكون هدفه الارتقاء بالمجتمع وتنشئة المواطنين على المعرفة والاطلاع على الصحف والمجلات والسينما، وحصل على الموافقة عام ١٩٣٩، ولكن حدثت المفاجأة الموجعة، ففى يوم الافتتاح فوجئ الرجل بعدد ضخم من الأعضاء وبينهم حسن البنا الذى كان سيد عويس يراه باحثًا عن السلطة وليس عن الدين، فشعر بأن شيئًا يتم تدبيره لتدخل هذه الجمعية تحت جناحه وجناح جماعته، يقول سيد عويس: «فانزويت بعيدًا فى أحد الأركان لا أعرف ما يدور وكانت تلك آخر مرة يلتقى فيها بهؤلاء، وانقطع لدراسته وسط الناس وقدم لنا هتاف الصامتين».