رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. محمود خليل يكتب: جئتكم بالذبح.. براءة النبى من قتل الأقباط فى ليبيا

محمود خليل يكتب
محمود خليل يكتب

قبل أن ينحر رقاب ٢١ مصريًا شهيدًا (فى ليبيا) خطب السفاح الداعشى خطبة صلى فيها وسلم على النبى محمد الذى بُعث بالسيف رحمة للعالمين. كانت العبارة صادمة لبعض المسلمين الذين لم يسبق لهم الاستماع إلى أحاديث السيف والذبح، وكانت بالنسبة لآخرين تحصيل حاصل، وأقصد بالآخرين أبناء الفصائل والجماعات الإسلامية المختلفة الذين تربوا على هذه المقولات، وكان موقف فريق ثالث هو التشكيك فى أن يكون هذا الكلام صحيحًا فى نسبته إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذى خاطبه الله قائلًا: «وإنك لعلى خلق عظيم».

بداية علينا أن نفهم أن كتب السيرة والحديث تشتمل على كلام عن الذبح والسيف. وما احتج به السفاح الداعشى مسطور فى بطون هذه الكتب. ولو أنك راجعت واحدة من أقدم السير التى حكت رحلة النبى، صلى الله عليه وسلم، مثل السيرة الحلبية، فسوف تجد فيها تلك العبارة الخطيرة، عبارة «جئتكم بالذبح». وفى الحديث الشريف روى الإمام أحمد فى مسنده عن عبدالله بن عمر الذى روى أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِى تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِى، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِى، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ». نحن إذن أمام فكرة موجودة فى كتب السيرة والحديث، فكرة تؤسس لأيديولوجيا السيف، وتؤصل لموضوع «ذبح» الآخر، سواء كان هذا الآخر مخالفًا فى العقيدة، أو مخالفًا فى الاعتقاد، أو بعبارة أوضح، سواء كان هذا الآخر على دين أو ملة أخرى، ورفض الدخول فى الإسلام، أو كان مسلمًا لا يريد الرضوخ لأفكار من يمسك بالسيف ويملك أن يحز رقبته. ولو تأمل القتلة القرآن الكريم أو راجعوا مجمل السيرة النبوية الشريفة لأدركوا وجه الوهم و«الزيف» فى الارتكان على «السيف»!.
تعد قصة نبى الله إبراهيم وولده إسماعيل، عليهما السلام، أشهر قصة تناولت موضوع ذبح إنسان لإنسان آخر. الشاهد الواضح فى هذه القصة أن الله تعالى أراد أن يختبر مدى طاعة إبراهيم له، فوضعه فى هذا البلاء المبين، وأثبت أبوالأنبياء أنه لا يتوانى عن طاعة خالقه، حتى ولو أمره بذبح ابنه، فكافأه الخالق بأن أعفاه من هذه المهمة العسيرة. يقول الله تعالى: «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ». فالإله الرحمن الرحيم لا يرضى بأن يكون ذبح البشر سنة فيما بينهم. ومن اللافت أن القرآن الكريم قبَّح فعل «الذبح» وربطه بالطغاة الظالمين، شأن فرعون ومن على شاكلته. يقول الله تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ». وفيم يكون الطغيان وأين يكون الفساد، إذا لم يكن فى إقدام إنسان على ذبح إنسان يستضعفه؟!.
تمنحك قصة إبراهيم وولده، عليهما السلام، مؤشرًا أوليًا حول موقف القرآن الكريم من فكرة الذبح، القرآن الذى نزل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الذى يلصق به بعض المؤرخين وبعض المثرثرين تلك الجملة القاتلة: «جئتكم بالذبح». فكيف يمكننا التسليم بأن النبى، صلى الله عليه وسلم، قالها وننحى جانبًا الآيات القرآنية الكريمة التى تؤكد الرباط المقدس بين أبوالأنبياء إبراهيم ومحمد؟ فنبينا محمد على ملة إبراهيم التى علمت البشر عدم ذبح أبنائهم أو أبناء الآخرين. وعلى الواقفين على حافة المذبحة، شاهرين الأسلحة، أن يفهموا أنهم أبعد الناس عن ملة ابراهيم.«وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ».
الواضح أن الذبح فكرة عربية أكثر منها إسلامية، تتأسس على المزاج القبلى والانحياز للعصبية. وقد حارب القرآن هذه المعانى اللا إنسانية. والله تعالى يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ». ولفظ الناس واضح فى دلالته على البشر جميعًا. هل يعقل بعد ذلك أن نقبل ما تقوله كتب السيرة والحديث حول عبارة «جئتكم بالذبح»؟!. إنها عبارة اخترعها العرب اختراعًا وحاولوا نسبتها إلى النبى ليبرروا لأنفسهم أنهار الدماء التى أراقوها فى صراعهم على الحكم بحد «السيف». فبعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، عاد الوجه القبلى والانحيازات العصبية إلى الظهور من جديد على ساحة الإسلام والمسلمين، وأُشهرت السيوف، وظهرت فكرة الذبح كأداة للتعامل مع المخالفين فى الرأى، وامتد الأمر إلى المختلفين فى العقيدة، فبدلًا من أن تستخدم السيوف فى الدفاع عن الإسلام والمسلمين، أصبحت توظف فى أحوال من أجل قهر الغير، وإذا هانت رقبة ابن ذات العقيدة والثقافة، فإن رقاب الأغيار تكون أهون.