رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالحليم حافظ.. رومانسية الفن والسياسة


مرّت علينا منذ أيامٍ قليلة ذكرى وفاة أشهر مطرب عرفه العالم العربى فى النصف الثانى من القرن العشرين، حليم، العندليب الأسمر، مطرب ثورة ٢٣ يوليو، الثورة التى يمكن تلخيصها بحق فى عبارة واحدة: «رومانسية السياسة والفن»، حيث الأحلام أكبر من الإمكانيات، والواقع اختلط ببعض الخيال، والكثير من الألم.
يُعتبر حليم بحق هو ابن ثورة ٢٣ يوليو، إذ ولِد فى عام ١٩٢٩، وعند اندلاع الثورة كان عمره ٢٣ عامًا، عنفوان الشباب وتوهج الأحلام، ولم يكن حليم فريدًا فى ذلك، وإنما هو ابن لحظة تاريخية وجيل عاش بحق الحلم، لكنه استيقظ على زلزال حرب يونيو ٦٧.. يمكننا تفهم ذلك إذا أدركنا أن رفقاء الدرب مع حليم، فى الفن: كمال الطويل ومحمد الموجى، وإلى حدٍ ما الشاعر صلاح جاهين، وهم أبناء عقد العشرينيات من القرن الماضى، إذ ولِد الطويل فى عام ٢٣ وربما كذلك الموجى، بينما ولِد حليم فى ٢٩، وجاهين فى عام ٣٠، وعلى نفس النحو، لكن فى الصحافة، نجد جيل الأحلام والانكسارات: محمد حسنين هيكل الذى ولِد فى عام ٢٣، وأحمد بهاء الدين فى عام ٢٧.. هكذا كان هذا الجيل مهيأً لأن يعيش الحلم مع بزوغ ثورة ٢٣، الثورة التى قام بها أيضًا مجموعة من الشباب أكبر قليلًا من جيل حليم.
ربما بدأ حليم الغناء قبيل الثورة، فى عام ١٩٥١، لكن شهرته وانتشاره سيرتبطان بنجاحات الثورة فى بدايتها، وحاجتها إلى جيلٍ جديد، لذلك سنجد هذا الجيل فى الفن والصحافة، وحتى فى وزراء شباب فى الثلاثينيات من عمرهم.
وسيرسم حليم عبر أغانيه العاطفية رومانسية العاطفة لدى أجيال عديدة.. مَن منا ينسى «صافينى مرة وجافينى مرة»، أو «فى يوم فى شهر فى سنة»، أو «يا خلِى القلب يا حبيبى» أو «اللى شبكنا يخلصنا»؟!، هذا جيل صعد فوق القمر قبل أن يصعد الأمريكان، بل وصل إلى النجوم!!.
وفى عصر الآمال والأحلام كان حليم بحق فارس الأغنية الوطنية؛ مَن ينسى اللقاء الكبير بين الثلاثى حليم والطويل وجاهين فى أغنية «إحنا الشعب» مع الصعود الكبير لعبدالناصر بعد عام ١٩٥٦؟.
مَن يستطيع أن ينسى أغنية «حكاية شعب» التى ارتبطت بإرادة أمة وبناء السد العالى، «قلنا هنبنى وادى احنا بنينا السد العالى.. يا استعمار بنيناه بإيدينا السد العالى»؟!.
وكما ساعدت الثورة، وحلم جيل الثورة، على ذيوع نجم حليم، فإن التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة، آنذاك، ساعدت هذا الجيل على تصدير الحلم، سياسيًا وفنيًا، إلى الجماهير، ليس فى مصر فحسب، بل فى شتى بقاع العالم العربى، من المحيط إلى الخليج.. كان انتشار الراديو «الترانزستور» فى ذلك الوقت ثورة إعلامية بحق، إذ يستطيع أى عربى فى أى قرية أو مدينة فى العالم العربى أن يستمع إلى صوت زعيم العروبة «ناصر»، وفنان الثورة «حليم».
لكن حدث زلزال فى عام ٦٧، وأمطرت السماء علينا طيرًا أبابيل دمرت المطارات العربية، وأصبحت طائراتنا حطامًا على الأرض، هذه السماء التى طالما غنينا لقمرها، ووصلنا إلى نجومها مع أغانى حليم!!.
هكذا اعتكف جاهين حتى لا يضحك على الجماهير مرة أخرى، ودخل حليم مع الأبنودى وبليغ حمدى مرحلة جديدة، مرحلة «عدى النهار.. والمغربية جاية»، هذه المغربية أو العتمة التى «شالت من ليالينا القمر» حتى «نتوه فى السكة»! إنها بحق مرحلة ما بعد ٦٧.
ويحاول هذا الجيل «إزالة آثار العدوان»، فيخرج لنا حليم أغنيته الشهيرة «أحلف بسماها وبترابها»، هذه الأغنية التى هزَّت وجدان هذا الجيل، وربما كانت محاولة لاستعادة الحلم الضائع.. ولذلك سيُصر حليم على بدء حفلاته الغنائية بهذه الأغنية تعبيرًا عن أزمة جيل، ويستمر كذلك حتى حرب ٧٣ عندما غنى «عاش اللى قال للرجال عدوا القنال».
وفى ٣٠ مارس ١٩٧٧، رحل حليم، ورحلت معه آمال وأحلام جيل، وعبَّرَت جنازته المهيبة عن أمةٍ توَدِّع ما تبقى من حلمها، ونهاية عصر الجنازات الأسطورية؛ جنازات ناصر، وأم كلثوم ثم حليم.