رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العالم من الضفة الأخرى


أحببت تشيخوف منذ أن قرأت قوله: «فى الإنسان يجب أن يكون كل شىء جميلا، وجهه وروحه، أفكاره وملابسه». ومع إعادة قراءة قصص تشيخوف، أدرك ليس فقط مغزى كل قصة لدى ذلك الكاتب العظيم بل أكاد أضع يدى على رؤيته للعالم.
إنه- مثل كل الكتاب العظام- يرى الحياة والمجتمع من ضفة أخرى، فيقدم لنا العالم مقلوبا، معكوسا، ويؤكد أن للأديب رؤية تتعارض مع زاوية النظر السائدة، تتأمل أحوال العالم ليس بصفته الحالية، بل بصفته التى ينبغى أن يكون عليها. من هنا تحديدا يكون الكاتب. وعندما ظهر أنطون تشيخوف كانت النظرة السائدة فى زمنه- وربما إلى الآن- أن الأثرياء هم مصدر الشر والاستغلال، وأن الفقراء مظلومون محرومون جديرون بالعطف والدعم، وأن مشكلة العالم الرئيسية تكمن فى الثراء الفاحش.
بهذه الرؤية السائدة صدرت رواية جاك لندن «العقب الحديدية» ١٩١٦ بعد وفاة تشيخوف بأربع سنوات، وبتلك الرؤية كتب كثيرون آخرون أثناء حياة تشيخوف وبعد رحيله. لكن تشيخوف كان يرى القضية من ناحية أخرى تماما، فقد اعتبر أن المأساة ليست فى بطش الأثرياء ولا فى جبروتهم بل فى ضعف الفقراء وخنوعهم. وفى واحدة من أشهر قصصه وهى «البدين والنحيف» يلتقى بالمصادفة صديقان كانا فيما مضى يدرسان معا ثم فرقتهما الحياة، فأمسى أحدهما موظفا صغيرا والآخر أحد كبار رجال الدولة. وفى بداية اللقاء تشع الفرحة والسعادة لدى الاثنين من ذكريات الصبا المشتركة إلى أن يعرف الموظف الصغير من خلال الحديث أن صديقه أمسى من كبار رجال الدولة، فيبدأ فى التلعثم، والانحناء، ومخاطبة صديقه ليس باسمه مجردا بل مسبوقا بلقب صاحب السعادة وما شابه.
وتحل الدهشة على الصديق الثرى من هذا التحول، ويشرع فى تشجيع صديقه على العودة إلى روح الصداقة التى لم تكن تعرف الانحناء والنفاق بل المساواة والأخوية، لكن الموظف الصغير يعجز عن ذلك!، هنا يشير تشيخوف، خلافا لكل ما هو سائد، إلى أن المأساة ليست فى ثراء أو وضع رجل الدولة الاجتماعى، بل فى ضعف وخنوع الإنسان الصغير. هنا يطرح تشيخوف القضية من الضفة الأخرى. وفى قصته الشهيرة «موت موظف» يعالج تشيخوف الموضوع ذاته. وكان تشيخوف قد استلهم فكرة القصة من حادثة نشرت فى الصحف عام ١٨٨٣عن انتحار موظف أحيل للمحاكمة بتهمة الإساءة إلى موظف أعلى منه رتبة، وحاول الموظف الصغير أن يعتذر للكبير عدة مرات من دون جدوى، ثم انتحر بشنق نفسه. لكن الكاتب الكبير ينقل الأحداث إلى مسرح، حيث يعطس موظف صغير من دون قصد فى قفا جنرال جالس أمامه، فيظل يعتذر له، ويعتذر، والجنرال يطالبه بالتوقف عن الاعتذار، لأن الغلطة لا تستأهل كل ذلك، ثم يصرخ فيه موبخا، فيمضى الموظف الصغير إلى بيته، ينام على سريره ويموت.
ومجددا يتحدث تشيخوف من الضفة الأخرى حيث المأساة ليست فى القوة، بل فى الضعف. يبين تشيخوف أن أسباب حياتنا فى داخلنا، وإن لم نكن أقوياء فلن يساعدنا شىء فى مواجهة العالم. تتردد هذه النغمة الجديدة فى قصته العذبة «المغفلة» حين يحاول أحد السادة مازحا أن يخدع خادمته قبل أن يعطيها راتبها الشهرى فيستدعيها ويذكرها بالراتب المتفق عليه، لكن يقول لها: إلا أنك حطمت قدحا منذ أسبوع ثمنه روبلان، سأخصمهما. تصمت الخادمة التى لم تحطم شيئا، فيقول: وتغيبت عن العمل نصف يوم، سأخصم روبلين. تنظر إليه بعينين دامعتين لأنها لم تتغيب، وهكذا إلى ألا يبقى من الراتب سوى أقل من ربعه، فيعطيه لها. تأخذه وتشكره. وهنا يجن السيد صاحب البيت ويصرخ فيها: كيف تقبلين أن يخدعك أحد إلى هذا الحد؟، بل تقدمين الشكر إلىّ؟. تقول: فى أماكن أخرى لم يعطونى شيئا!. يتألم تشيخوف لضعف الخادمة، لكنه يدينها بعطف ورفق، ويرى القضية مجددا من الضفة الأخرى، من هناك حيث المشكلة فى الضعف فى مواجهة العالم، وليست فى سطوة وقوة الطرف الآخر.
وقد كتبت آلاف القصص عما يحدث حين يقع اثنان فى غرام بعضهما، لكن تشيخوف قد يكون الوحيد الذى كتب قصة عما لا يحدث حين لا يحب اثنان بعضهما، وذلك فى قصته المدهشة «المعلمة». وقد قام الأدب الروسى قبل تشيخوف برسم شخصيات إنسانية ثرية اتخذ منها أبطالا لقصصه، لكن تشيخوف كان أول من قدم «اللا أبطال»، البشر الذين يجب علينا أن نشير إلى ضعفهم لكن بحب ورفق وعطف، لكى نتجنب ذلك الضعف. إلى آخر يلح على موضوع «الضفة الأخرى» التى تضع كل أديب خارج هذا السياق أو ذاك، وأقول لنفسى: ومع ذلك فقد عرف المجتمع دوما قوى خيرة تضع فى حسبانها أن ذلك هو دور الأديب، الذى يرى ما ينبغى أن يكون. ويحضرنى من مسرحية «بستان الكرز» لتشيخوف صوت الأمل الخافت فى بناء عالم جديد: «تتهدل فيه على روح الإنسان بهجة هادئة، عميقة، كالشمس فى الماء».