رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حق عليك.. وليس ردًا لجميل


اليوم وبعد سنوات، يبدأ المصريون وضع حجر أساس دولتهم الحديثة، أو يبدأون البناء الفعلى لمصر جديدة، من اليوم ولأسبوعين قادمين يقف المصريون فى طوابير الانتخابات لاختيار رئيسهم فى الفترة الرئاسية القادمة ولمدة أربعة أعوام، وهنا يقيمون الركن الأهم فى أركان الدولة.. اختيار رئيس بطريقة ديمقراطية، اختيار حقيقى وليس استفتاء، كما يردد البعض.
الذهاب إلى طابور الانتخابات ليس فقط رد الجميل، لرجل استطاع أن يعيد تصحيح مسار تاريخ وطن، وليس ردًا لجميل رجل عمل فقط من أجل الوطن، ولم يتقدم لمنصب إلا بعد استئذان شعبه وطلب تفويضه ودعمه.. أن تقف أمام لجنة انتخابية بالساعات أفضل كثيرًا من أن تقف فى طابور على حدود دولة ترفضك كلاجئ أو فى طابور أمام قوافل إغاثة تحلم بكوب حليب لابنك أو جرعة دواء لابنتك أو لحظة أمان لأمك العجوز.. اختيار الرئيس القادم والمشاركة فى ذلك ليس ردًا لجميل أحد عليك ولكنه تأكيد لوطنيتك.
فأنت فى لجنة الانتخابات وأمام صندوق الاختيار تشارك فى بناء وطنك.. كما يشارك أخ لك فى الدفاع عنه فى سيناء وفى المنطقة الغربية، وعلى كل حدود الوطن.. تذكر وأنت تقف الآن تحت مظلة فى مدرسة تنتظر دورك كيف كان حالك بالضبط فى مارس ٢٠١١ وأنت تقف فى لجان شعبية تحرس منزلك وسيارتك وأسرتك، الفارق كبير بين أمس واليوم، أو لنكن صادقين، لا وجه للمقارنة.
فى مارس ٢٠١١ كان مبارك فى شرم الشيخ تحت الحراسة أو الإقامة الجبرية، وكان رموز النظام فى السجون، ليس ثمنًا لجرائم ولكن ثمنًا للمساهمة أو المشاركة فى نظام لم يستطع أن يحقق ما يريده الشعب، وفى القاهرة كان المجلس العسكرى يحاول جمع شمل كل القوى السياسية الفاعلة أو التى تخيلت نفسها فاعلة، أو التى تحلم بأن تكون فاعلة، وكان الشباب ما بين التحرير ومحمد محمود، ومحاولات الإخوان للسيطرة وسعيهم للتمكين، لم يكن هناك قسم للشرطة لم يتم تخريبه أو اقتحامه، مبانٍ حكومية كثيرة تم حرقها وأخرى تم نهبها، رجال الأعمال الناجون من القضايا يسعى بعضهم إلى أحضان الإخوان، والآخر استعد للرحيل عن الوطن.. أحلام للفقراء بمليارات تعود من الخارج وانهيار اقتصادى يغزو الداخل.. كان الوضع على الأرض ينبئ بالأسوأ ليس فى مصر فقط ولكن فى تونس، حيث سيطر الإخوان وهرب زين العابدين، وفى سوريا حيث اندلعت المظاهرات فى درعا والغوطة وعفرين وضواحى دمشق واليمن، حيث كان صالح يستعد هو الآخر لحرب طالت حتى الآن، وباقى حكام العرب يستعدون لتلقى تعليمات أوباما خوفًا من أن تمتد إليهم نيران الربيع العربى أو يدهسهم قطاره.
مرَّ عام كامل وجاء مارس ٢٠١٢.. التحرير يخلو إلا من جُمَع التظاهر، والقائد إبراهيم بالإسكندرية يعود إلى جزء من سابق عهده.. الاحتياطى الدولارى يتآكل.. المجلس العسكرى يحاول.. الشارع السياسى يموج بأكثر من مائة حزب ومائة ائتلاف.. مصانع كثيرة توقفت وأخرى فى طريقها، والمرشد يجلس فى زهو فى مقر الإرشاد بالمقطم، يحيط به مجلس إرشاده وخيرت الشاطر يفتح منزله ومكتبه للسفيرة الأمريكية، ومرسى فى حزب الحرية والعدالة وطابور طويل من المتلونين يسبحون بمجد الإخوان، وحقهم فى قيادة الدولة، ومجلس نيابى سيطر عليه الإخوان، بدءًا من مقعد رئيسه وحتى عماله وحولوا البهو الفرعونى إلى قاعة طعام وملتقى لأسرهم وأتباعهم.. واستعداد للقفز على مقعد الرئيس ليكتمل لهم ما يريدون.. وشفيق وآخرون يستعدون لسباق رئاسى يبدو فى الأفق البعيد محسومًا.. وأيضًا مرحلة تمكين إخوانى فى كل مفاصل الدولة ومقاومات ضعيفة لما أطلق عليه الدولة العميقة.. ومواطن تائه يحلم بأشياء كثيرة.. وفى باقى الدول العربية كانت الصورة أسوأ، الجيش السورى انقسم إلى جيش بشار وجيش حر، وجماعات الإرهاب تتوافد على الوطن السورى الشقيق من كل مكان.. ليبيا تنقسم إلى دويلات تحت سيطرة الميليشيات، وكذلك اليمن السعيد يخطو نحو التعاسة الحقيقية.
عام آخر مرَّ ويأتى مارس ٢٠١٣ والصورة أصبحت أكثر قتامة.. القصر الجمهورى يستقبل كل يوم طارق وعبود الزمر وحازم صلاح أبوإسماعيل، وبوابات الأمن الوطنى والأجهزة السيادية تقف انتباهًا لدخول محمد البلتاجى ومساعديه بعد أن كانوا يعبرون إليها عبر سيارات التراحيل، ويمسك بأكتافهم جندى أو حضرة الصول أصبح رئيس جهاز الأمن الوطنى يقف منتظرًا دخول السيد البلتاجى الذى يصف نفسه بأنه صاحب رؤية لإعادة هيكلة الرقابة الإدارية وجهاز أمن الدولة، واتسع حلمه ليطول المخابرات العامة، ولم يكن مجلس الشورى بأسعد حال ولا كان مقر مجلس الوزراء بأسعد من سابقيه، فالإخوان انتشروا فى كل مكان، وحول صلاح عبدالمقصود وزارة الإعلام ومكتب وزيرها إلى ملتقى لأصدقائه ومريدى الإخوان وأطلق المتلونون اللحى، وانكفأ البعض على وجوههم طلبًا لمكانة أو منصب.. وكان طائر النهضة يحلق حول الوطن، وخطط الدولة لمواجهة الأخطار تذاع على الهواء، ومرسى يتجول حول العالم وأسرته تحتل مقار الرئاسة، ويعبث أولاده فى باقى القصور ويعيش أتباعه زهو وهم الانتصار. وسط هذا المشهد المأساوى كان رجال الأعمال الإخوان يفاوضون من تبقى من رجال مبارك حول ثرواتهم أو يذهبون بهم إلى النائب العام الملاكى.. ولكن كما يأتى الربيع الحقيقى فى مارس.. أتى ربيع تمرد وبدأ الشعب يثور بشكل منظم ولم يكن الجيش ولا وزير دفاعه بعيدين عن الصورة، كان ما يجرى فى الشارع مرصودًا، وكان أبناء القوات المسلحة الأكثر إحساسًا بما يدور فى الشارع المصرى، ولم يكن الإخوان بعيدين عن الصورة، ولكن زهوة الانتصار وحلم القضاء على دولة الستينيات وما بعدها، ظنوا أنه قد تحقق وأن قيادة الوطن قد باتت فى أيديهم ولمَ لا؟ ومرسى يركب سيارة السادات فى استاد القاهرة محييًا الآلاف من أتباعه ويجلس قاتلو السادات فى المنصة مكرمين فى عيد النصر الذى حققه السادات ثم اغتالوه يوم عيده.. وكان الاختلاف الحقيقى بين ما يحدث فى مصر وغيرها من بلدان الربيع المأسوف عليه هو فى ذلك الشعب والقائد القادم.. هنا كان شعب لا يتوجه إلى حدوده هربًا بل تجمع داخل وطنه.. لم يغادر ويحمل أمتعته بل تحمل وصمد وبقى وحمى بيته وأمتعته.. شعب فكر كيف يسترد حقه وبسرعة، وكان معه الفارق الأهم جيش لم ينقسم وقائد له لا يعرف لغة سوى الحسم فى سبيل الوطن وسوى العمل من أجل وحدته ثم بنائه.. كان هذا الفارق هو الدافع لكى يطمئن الشعب.
وجاء مارس ٢٠١٤ ونسمات الربيع الحقيقى تعود إلى مصر.. عام من الحكم الانتقالى بشكل ديمقراطى.. دستور جديد.. مجلس برلمانى جديد.. طريق لانتخابات ديمقراطية لاختيار رجل حقق هدفه، وهو يرتدى الزى العسكرى، فحمى وطنه ودافع عنه وملايين تستعد لتفويضه لقيادة البلاد بعد أن فوضته فى استردادها من قبضة الإخوان وتغيرت الأحوال، القصر الجمهورى عاد قصرًا رئاسيًا، والبهو الفرعونى عاد له احترامه والشرطة عادت إلى الشارع، والقوات المسلحة تؤمّن الوطن كما تؤمن به.. وتباعدت المسافات بين ما يحدث فى مصر وما يحدث حولها، نزاعات ليبيا تزداد وسوريا تقدم آلاف الشهداء والضحايا وجماعات الإرهاب ترتع فيها واليمن تحول من السعيد إلى الأكثر تعاسة، وحوالى المليون شهيد فى دول الربيع العربى من المدنيين، رجالا وأطفالا ونساء.. وملايين اللاجئين حول العالم وداخل دولهم فى المخيمات.
ويأتى مارس ٢٠١٥ والرئيس السيسى يعيد هيبة الدولة، نعم وصفها حينئذٍ بأنها شبه دولة ولم يكن ذلك تقليلًا من مكانة مصر، ولكن كان وصفًا لما يحدث، كان أمامه لكى يكمل أركان الدولة الكثير من العمل.. أن تعود للشرطة هيبتها وأن تعود أيضًا إلى عملها فى تأمين الوطن واجتثاث الإرهاب وضبط الإرهابيين، وأن تعود أجهزة أخرى إلى صدر المواجهة، وعادت هيئة الرقابة الإدارية لتكون سيفا مسلطا على رقاب الفاسدين وليصطاد صقورها كل يوم فئران الفساد التى تضخمت واستهانت بالدولة.. وكان صقور مصر فى المخابرات العامة كالعهد بهم أمناء على الوطن، محلقين حوله لحمايته.. أما أبطال القوات المسلحة، فلم تغمض عين لقائد قبل الجندى فى تحقيق الأمن، وأيضًا كانوا مقدمة البنائين فى مسيرة التطور.
قصة طويلة تلك عناوينها أو بعض من عناوينها.. قصة كتبها أبناء مصر ليتطلع إليها العالم كله ويقف أمام شعب وقائد يعيدان بناء الأمجاد مرة أخرى بل يؤيدان ببناء دولة حديثة.. عاصمة إدارية جديدة.. قناة سويس أخرى.. ١٥ مدينة جديدة.. آلاف الكيلومترات من الطرق.. جامعات دولية.. مصانع تعود للعمل وأخرى تبدأ العمل.. أمن للأسر البسيطة وأمان لعمال التراحيل.. كرامة وتكافل للمسنين والأسر المحتاجة.. تأمين صحى فى الطريق إلى الجميع.. منظومة تعليم جديدة.. اقتصاد يقفز باحتياطيه الدولارى إلى ما فوق الأربعين مليارًا لأول مرة.. سيناء تربط بالوادى.. قطار المونوريل وأنفاق المترو تبدأ فى التأسيس أو العمل، صورة رائعة لوطن يستحق الكثير، وكما كانت مصر وستظل هى الحلم الذى يسعى الجميع إلى تحقيق مثله يجب أن تكون الصورة اليوم وغدًا وبعد غدٍ فى كل السفارات المصرية بالخارج، وأن يبدأ المصريون فى الخارج، كما كانوا دائما السبّاقين، رحلة بناء المستقبل من خلال صناديق الانتخابات.. أما ملايين المصريين هنا فليس هناك من يطالبهم بأن يتجهوا إلى الصناديق نهاية الشهر لأنهم جميعًا يعرفون جيدًا واجبهم الوطنى ويستعدون للقيام به.. الجندى فى سيناء والشهيد فى كل مكان ينادون فقط عليك أن تسهم بأن تكمل ما بدآه وأن تستعد للمستقبل الذى تحددت أولى خطواته، وتضع حجر أساسه فى صندوق الانتخابات.. انزل وشارك ودافع عن حق وطنك ليس ردًا لجميل ولكن ضمانًا للمستقبل واستكمالًا لما بدأ وتأكيدًا على أن مصر هى القادمة.