رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العدالة المنقوصة ظلم كامل


ميزان العدالة على منصة القضاء يتمثل فى سيدة معصوبة العينين، وكفتا الميزان فى يديها على مستوى واحد لا فرق بينهما لأى سبب كان سواء للون أو للجنس أو للثقافة أو للدين أو للمستوى المادى لأى منهما. لا فرق بين إنسان وآخر فالكل أمام القانون سواء. العدالة ليست فقط مسئولية القضاء، وإن كان حكمه عنواناً للحقيقة، والفيصل النهائى الذى يلجأ إليه كل إنسان يناله ظلم من جراء اهتزاز ميزان العدل فى أى حلقة أو مرحلة من مراحل حياته، سواء كان مصدر الظلم هو فرد من أفراد المجتمع، أو من موظف عام، فالقانون وُجد ليحكم الجميع، وبه يحتكم الصغير والكبير، والحاكم والمحكوم، والغنى والفقير.

كما أن رقى المجتمعات وتقدمها يقاس بميزان عدالتها. والعدالة مجردة من الهوى فلا تباع أو تشترى ولا بمال الدنيا، كما لا تخضع للهوى أو للأمزجة.

والعدالة سيدة مسلحة بثلاثة رموز هى السيف الذى يرمز إلى القوة، وكفتا ميزان فى يديها، واليدان متوازنتان على ذات المستوى، أما عيناها فعمياوتان علامة اللا محاباة.

لقد كان فهم العدالة فى حكم المجتمعات عبر التاريخ يخضع لمواجهة فلسفية وقانونية ولاهوتية، وتاريخ الحضارة الغربية يشهد المجادلات حول أهمية العدل وما يتطلبه من الأفراد والمجتمعات، وما هو التوزيع الأمثل للثروات والموارد فى المجتمع، وما هو مفهوم المساواة المبنى على الاستحقاق البعيد عن أى مؤثرات خارجية سوى الكفاءة المجردة، وعبر الفلاسفة بالقول إن العدالة هى الفضيلة الاجتماعية الأولى التى تعلو على سائر الفضائل الأخرى مثل أعمال الخير والإحسان، والرحمة، والكرم، أو العطف، بل وارتبط مفهوم العدل مع مفاهيم المصير والعناية الإلهية. والعدالة تشمل جوانب عديدة منها العدالة العقابية التى تحقق الأمان والاستقرار للمجتمعات، وهى لا تهدف إلى مجرد العقاب أو اتباع الأذى، بقدر ما تسعى إلى تصحيح الوضع بالنسبة للضحايا، وإعادة تأهيل وتصويب مسار المعتدى ليعود إلى المجتمع بصورة مغايرة وصحيحة.

وغالبية المجتمعات تنظر إلى ميزان عدالة التوزيع من منظورين، الأول هو مساواة الجميع فى المعايير الأساسية والتى تشمل الكرامة والاحترام والجزاء دون تمييز أو مجاملة، وبعيداً عن القهر والتسلط، حتى وإن صيغا فى قوالب قانونية، إذ لا علاقة بين العدل وبين القمع والاستبداد مهما حاول المشرع أن يضعها فى أشكال تعطيها الصيغة الشرعية، إذ لا تشريع بلا شريعة .

وفضيلة العدل هى مملوكة للشعوب، كما أن العدل هو الأساس الذى يقود إلى الانسجام والالتحام بين الحاكم والمحكوم، بل إنه القانون الطبيعى للجنس البشرى.

والمنظور الثانى فهو عدالة توزيع العائد، فهى مبنية على الجهد المبذول، ومتناسبة معه، أما عدالة الاحترام والكرامة والفرص، فهى حق للجميع دون استثناء وهذه العدالة تتركز فى التعليم والعمل والصحة والكرامة، كما أن هذه الاحتياجات لا تقبل التجزئة، وإلا كانت الظلم بعينه. والعدالة المنقوصة لا تُنسب فقط إلى السلطات الحاكمة العليا، كالتشريعية والقضائية والتنفيذية، وإن كانت هى الأساس والنموذج الذى يحتذى به الجميع، ولكن اختلال ميزان العدالة قد يمتد إلى أفراد المجتمع العاديين، بل وإلى داخل الأسرة الواحدة، كالتفرقة فى معاملة الآباء للأبناء بسبب لا دخل للأبناء فيه، إذ لا ذنب لطفل وُلد بنتاً وليس ولداً، أو العكس، أو أن أحدهم أكثر ذكاءً أو أقل جمالاً، أو بسبب غياب أحد الآباء أو إحدى الأمهات.

كما أن التمييز أو المحاباة قد يحدثان لمجرد المظهر العام، أو الوجاهة، أو الانتساب لأسرة معينة، وهذه كلها أسباب لا دخل للفرد فيها، حتى يختل ميزان العدل فى توزيع الفرص، أو إنهاء المشكلات، وحتى خفة الدم قد يكون لها عامل فى اختلال ميزان العدل.

ولو أدرك كل مسئول فى موقعه، أو معلم فى فصله، أن الله قد خلق الناس جميعاً متساوين فى الكرامة، وأن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً، وكما يقول المثل إن شجرة التفاح لا تلقى ثمارها بعيداً عنها، فعندئذ سيعرف المسئول أن ميزان العدل فى يده، وسيجازى عنه خيراً كان أم شراً، كما أن العدالة الناقصة هى الظلم الكامل.

وأما عدالة التوزيع، فهى تسعى إلى توجيه الأشياء إلى مكانها الصحيح، وهذه الأشياء تشمل القوة، والجزاء، والكرامة، لتصل إلى الناس دون تمييز، أو مجاملة، أما القهر والتسلط حتى وإن صيغا فى أشكال قانونية، فلا علاقة بينهما وبين العدل، والتفسير الصحيح لقانون القمع المستبد فهو نتاج تشريع بلا شريعة.

أما العدل، فهو فضيلة ملكية الشعوب الناتجة عن جهودهم وأعمالهم ومؤسساتهم الناتجة عن جهدهم وخلقهم، كما أن مصدر العدل مردود إلى الانسجام والالتحام، والقانون الطبيعى، والجنس البشرى.

الفكرة الأولى هى العدالة والمساواة . المساواة يمكن تحقيقها بطريقة مختلفة مثل أى نوع من الحاصلات أو المواد التى يمكن توزيعها بمساواة الثروة والاحترام والفرص، وهى توزع بمساواة بين الأفراد والمجتمعات والأمم والأجناس.

والفكرة الأخرى هى العدالة والاستحقاق، أى أن يأخذ كل واحد ما يستحقه، وهذا ما تجمع عليه كل النظريات، وإن اختلفت النظريات حول أساس الاستحقاق.

وبين الفكرتين، أو النظرتين يأتى تقسيم نوع الموارد التى توزع وفق الحاجة، وتلك التى توزع وفق العمل، والجهد، والاستحقاق الفردى. أما المساواة فى التوزيع مختصة بالاحتياجات الأساسية، كالطعام، والمأوى، والرعاية الطبية، وهذا ما اتجهت إليه الماركسية التى وضع كارل ماركس شعارها «من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته».

أما ما أريد التركيز عليه، وليس بعيداً عن النظريات المختلفة لمفهوم العدل الذى لا يتواءم ولا يتقاطع مع الظلم، فهو عدالة الفرصة، وأعنى بها فرصة عادلة فى التعليم، والعمل، والصحة، والمعاملة الكريمة، وهذه العدالة لا تقبل التجزئة، وإلا كانت الظلم بعينه، والعدالة الناقصة هى الظلم الكامل.

إنها الرسالة المفتوحة والمتاحة لكل إنسان فى أى موقع، كبيراً كان أم صغيراً، يحتاج أن يراجع أسلوبه وأداءه فى عمله، ويتخيل أنه فى أعلى الكرسى الجالس عليه يوجد سيف ذو حدين معلق بخيط رفيع قابل للقطع، وإن قُطع، قطعت رأسه، ولذا يجب عليه أن يحرص كل الحرص أن يراعى ضميره المهنى والأخلاقى ليحقق العدل الواجب وغير المنقوص، دون النظر إلى شخص صاحب الاستحقاق ذكراً كان أم أنثى، غنياً كان أم فقيراً، فالعدل ليس منة أو منحة، بل إنه حق واجب الأداء كاملاً، وغير ذلك فهو الظلم الذى يجلب العقاب فى الدنيا والآخرة، فإن حكمتم بين الناس، فاحكموا بالعدل وليكن العدل كاملاً