رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سينما زاوية للأفلام الصهيونية


عرضت سينما «زاوية» الكائنة فى وسط البلد، فيلم «القضية ٢٣» بدءًا من يناير الحالى، رغم الضجة التى رافقته بسبب منع عرضه فى لبنان وفلسطين، والوقفة الاحتجاجية التى نظمها المثقفون فى تونس، ودعوة اللجنة الشعبية لمقاطعة إسرائيل إلى عدم عرضه، رغم ذلك كله تمسكت دار العرض سيئة السمعة بعرض الفيلم. الصخب الذى أثاره الفيلم، لم يظهر من فراغ إنما لأن الفيلم تم تكريمه فى مهرجان سينما إسرائيلى، وإسرائيل لا تكرم إلا ما يعكس وجهات نظرها، كما تم تصوير أجزاء كثيرة منه فى إسرائيل بالتعاون مع إسرائيليين.

أيضًا فإن المخرج زياد دويرى معروف بدعواته للتطبيع مع إسرائيل، وزياراته إليها وتعاونه مع مؤسساتها. يتأكد ذلك كله بمضمون الفيلم الذى يقدم لنا صورة «العربى الطيب» الراضى بالاحتلال الإسرائيلى بعقل منفتح. خلال النقاش حول منع الفيلم أو السماح بعرضه فى القاهرة أشهر الكثيرون سلاح حرية التعبير، وأنه لا يجوز منع ولا وقف أى عمل فنى تحت أى مسمى.
والسؤال هنا: هل «حرية التعبير الفنى» مطلقة، أم أنها محكومة بما حولها؟، ولنبدأ بحقيقة أن «حرية التعبير الفنى» جزء صغير من مفهوم أوسع هو الحرية عامة. فهل هناك «حرية مطلقة» فى علاقة الإنسان بالطبيعة والمجتمع والتعبير الفنى؟ الحق أن كل المواثيق الدولية الخاصة بحرية التعبير الفنى، تربط تلك الحرية بعدم التعارض مع القيم الإنسانية أولًا، وعدم الحض تحديدًا على الكراهية أو التمييز بما فى ذلك الدستور المصرى فى المادة ٦٧ منه.

وفى «العهد الدولى» الذى بدأ العمل به عام ١٩٦٧ تشير المادة التاسعة عشرة حول الحريات، إلى أنه يجوز إخضاع حق التعبير لبعض القيود لحماية الأمن القومى واحترام حقوق الآخرين. وحتى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، يختتم بالنص على أنه: «لا يصح بحال من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها، أى يربط كل حقوق التعبير بمبادئ محددة، ولا ينظر إليها بصفتها حرية مطلقة». وعمليًا فإننا لن نجد «حرية التعبير الفنى» مطلقة من دون قيود فى أى بلد فى العالم. وفى فرنسا - منارة الحرية - تعرض روجيه جارودى لاتهامات قضائية عام ١٩٨٢ حين صرح بأن الاجتياح الإسرائيلى للبنان «جزء من منهج الصهيونية»، ثم حُوكم فى يناير ١٩٩٨ بسبب كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية».

وفى أمريكا تم وضع مقياس لما يمكن اعتباره تجاوزًا لحرية التعبير، وبدأ العمل به عام ١٩٧٣، ويعتمد على تقدير إن كان غالبية المواطنين يرون طريقة التعبير مقبولة أم لا، وإن كانت طريقة إبداء الرأى تتعارض مع القوانين الجنائية أم لا، وأيضًا إن كان العمل يتسم بمزايا فنية أو أدبية جادة أم لا. والآن: هل تتعارض ضوابط حرية التعبير مع عرض الفيلم الصهيونى «القضية ٢٣» فى سينما زاوية سيئة السمعة؟.. نعم.
ففى تقديرى أن عرض أى عمل يقوم بالترويج للتطبيع مع عصابة عسكرية شعارها: «حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل»، عمل يهدد الأمن القومى المصرى، وأى عمل يقوم بتجميل الوحش النووى الإسرائيلى، وإضفاء الطابع الإنسانى عليه، عمل يتعارض مع اعتقاد غالبية الناس، بخطر العصابة الإسرائيلية التى شاركت فى الحرب على العراق ولبنان ومصر وسوريا، وتسهم فى بناء سد النهضة لتعطيش مصر. وقد حدد بنيامين نتنياهو بوضوح قاطع فى كتابه «مكان تحت الشمس» أن «حق الدولة اليهودية يتجاوز حدود فلسطين إلى أراضٍ كثيرة فى الدول العربية»، وأى عمل يدعو للقبول بالاحتلال الإسرائيلى فى ظل عصابة ودولة لم تعلن عن حدودها إلى الآن عمل يهدد الأمن القومى المصرى. وللمقارنة علينا أن نتذكر ما جرى حين عرض محمد صبحى مسلسله «فارس بلا جواد» أواخر عام ٢٠٠٢، وتناول فيه حقيقة كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون»، فهاجت عليه إسرائيل كلها، وأشارت صحيفة «معاريف» إلى أن المسلسل أشعل ثورة غضب إسرائيلية، وصلت إلى حد اتهام مصر بانتهاك معاهدة السلام بين البلدين!.

ودعا «أفيجدور ليبرمان» اللوبى اليهودى فى أمريكا إلى الضغط على الإدارة الأمريكية لمنع المساعدات الأمريكية الاقتصادية لمصر حتى وقف عرض المسلسل. لكن إسرائيل هذه نفسها هى التى قامت بتكريم فيلم «القضية ٢٣» فى مهرجانها السينمائى! ووصلت الوقاحة بإسرائيل حد المطالبة بمنع مسرحية «تاجر البندقية» لشكسبير حين قام مسرح «كوميدى فرانس» بعرضها فى باريس، وصبت صحفها لعناتها على المخرج «أندريه شيربان»، لأنه صور اليهودى فى المسرحية فى أبشع صور الشر والجشع، وأضافت أنه إذا كان وليم شكسبير هو المبدع الأصلى للجريمة فلا ينبغى تكرار عرضها.

تبقى ملاحظة أخيرة حول علاقة الفن بحرية التعبير، ذلك أن فن وأدب كل شعب قائمان على العلاقة الوثيقة بينهما وبين تاريخ ونضال وأمانى هذا الشعب، ولا توجد استقلالية للفن عن تاريخ الشعب الذى ظهر منه، ولا توجد «حرية تعبير» مضادة لتاريخ وأمنيات وحقائق نضال هذا الشعب. إلا أن المخرج زياد دويرى وغيره ومعه سينما زاوية، يستخدمون قناع «حرية التعبير الفنى»، للتغطية على انفصال الفن ذاته عن دوره، وتحول هذا الفن إلى عملية دعائية للنازية والاحتلال. وقديما قال كافكا: «الأدب هو أن تهجر معسكر القتلة»، لكن البعض يختار معسكر القتلة ويردد أناشيدهم فى وجوه الضحايا والشهداء، وهذا اختياره، أما نحن فتبقى لنا حرية صد الرصاص عن صدورنا، وليس لأحد باسم حرية التعبير أن يجبرنا على تجرع السم بدعوى أن ذلك «فن»، لأنه ما من «فن» يدعو للقبول بالجريمة.