رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمسية فى محبة إبراهيم فتحى




مساء الخميس ٨ فبراير، اجتمع عدد كبير من أصدقاء الكاتب والمفكر الكبير إبراهيم فتحى لتكريم مسيرته الفكرية المبدعة، ورحلة نضاله الوطنى والثقافى الطويلة، التى استمرت لأكثر من نصف قرن دون توقف.
كان اللقاء فى دار الأوبرا بقاعة من قاعات المجلس الأعلى، وشارك فيه د. عماد أبوغازى، ود. كمال مغيث، د.شهرت العالم، د. حسين حمودة، القاص خالد الجويلى، الشاعر حسن طلب، القاص سعيد الكفراوى، د. محمد مندور، د. أحمد أبوزيد، وأ. منال قابيل وكثيرون ممن يعرفون قدر إبراهيم فتحى ودوره وتأثيره.
دخل إبراهيم فتحى المعترك الوطنى والثقافى منذ منتصف الأربعينيات، ولم يغادره ولم يتخل عن معتقداته ومبادئه، وخلال ذلك أغنى الحياة الثقافية بعشرات الكتب منها «معجم المصطلحات الأدبية»، و«نجيب محفوظ بين القصة والرواية الملحمية»، و«العالم الروائى عند نجيب محفوظ»، ومن بعض ما قدمه فى الترجمة: «المادية الجدلية» هنرى لوفافر، و«نظرية الوجود عند هيجل» ماركيوز، و«قواعد الفن» بيير بورديو، وغيرها كثير. وفى كلمته قال د. حسين حمودة بشأن كتاب العالم الروائى عند نجيب محفوظ أنه سأل نجيب محفوظ عن أفضل ما كتب عنه، فأجابه الروائى الكبير دون تردد: «كتاب إبراهيم فتحى». وكنت قد أرسلت نسخة من هذا الكتاب إلى أكبر مستشرقة روسية وهى د. فاليريا كيربتشنكو، فكتبت لى تشكرنى قائلة: «لم أفهم نجيب محفوظ إلا الآن».
تحياتى للأستاذ إبراهيم. عاش إبراهيم فتحى أشد سنوات الاعتقال قسوة على اليساريين فى الواحات من يناير ١٩٥٩ حتى ١٩٦٢، ولم يزده التنكيل إلا تمسكًا بمبادئه، وحين خرج من المعتقل كان جيل الستينيات بأكمله يواجه أزمة فكرية عميقة، ما بين إنجازات النظام الناصرى الوطنية، وعداء النظام العنيف للديمقراطية، وكانت الرؤى فى مواجهة الأزمة تتخذ سبيلين فقط، إما الدعوة للإطاحة بالنظام، أو الدعوة لتأييده بشكل مطلق. وفى حينه أطلق الكاتب محمد حافظ رجب شعاره «نحن جيل بلا أساتذة»، وهو شعار مأخوذ من عادل كامل الذى كتب «نحن جيل بغير أساتذة»، ولعل حافظ رجب كان يقصد أننا جيل نواجه أزمة عميقة ولا نرى منها مخرجًا.
فى تلك الفترة برز إبراهيم فتحى مفكرًا مبدعًا حين كتب «طبيعة السلطة الطبقية فى مصر»، وقال إن علينا أن ندرك إلى ماذا ننحاز فى النظام الناصرى؟ وما الذى يجب أن نتصدى له فى ذلك النظام؟ وبلور دعوته حينذاك بالتأكيد على أهمية انتزاع الديمقراطية والحريات دون إسقاط النظام.
وواصل المفكر الكبير حل أكثر المعضلات الفكرية تعقيدًا. حين بلور موقفًا تقدميًا من قضية الوحدة العربية بصفتها ظاهرة تفرضها عوامل الكفاح المشترك ضد الاستعمار، وحين بلور أيضًا موقفًا ثوريًا غير مسبوق من قضية فلسطين، وهاجم بعنف «هنرى كورييل»، الصهيونى، الذى تقنّع باليسارية تحت عنوان «هنرى كورييل والقضية الفلسطينية».
وسرعان ما ألقت السلطة القبض من جديد على إبراهيم فتحى عام ١٩٦٦ ومعه الشاعر عبدالرحمن الأبنودى ويحيى الطاهر عبدالله وغيرهما، وحينما أفرج عن الجميع أنشأ إبراهيم فتحى جماعة «كتاب الغد» عام ١٩٧١ فاحتضنت تيارًا واسعًا من أدباء الستينيات، وكان إبراهيم فتحى يشجع الجميع ويحفزهم، ويكتب لكل منهم مقدمة حتى إننى ذات مرة قلت له: «لقد كتبت الكثير من المقدمات»، فضحك ساخرًا كعادته وقال: «نعم».
مقدمات كثيرة، حتى إن البعض نصحنى أن أجمعها وأكتب لها مقدمة وأنشرها»! وظلت جمعية كتاب الغد هدفًا لهجوم الأمن، حتى توقفت لكن إبراهيم فتحى لم يتوقف. لهذا سرعان ما اعتقله السادات عام ١٩٧٣ لمدة عامين على ذمة قضية سياسية، ثم اعتقل زمن مبارك عام ١٩٨٩ فى قضية ذات علاقة بعمال الحديد والصلب. وظل إبراهيم فتحى يغنى حياتنا الثقافية بمقالاته وترجماته وبإبداعه الفكرى الذى التزم فيه بمبادئه اليسارية، لكن بصفتها أدوات للتفكير والإبداع، وليس بصفتها عقيدة جامدة، أو نصوصًا منقولة من غير تحليل أو تأمل. تحية للكاتب والمفكر الكبير الذى أتم الثامنة والثمانين من عمره، ووهب حياته لأجمل أمنيات مصر فى التحرر والتقدم والتطور، ومازال يغرس الورود فى حقل ثقافتنا المصرية العربية.