رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من يعيد زمن الأسطوات؟




منذ آلاف السنين وحضارة مصر شاهدة على أن هذا الشعب الذى بنى الأهرامات والمعابد كان شعبًا صاحب حضارة.. هذه الحضارة التى نتغنى ونفتخر بها بناها بناءون وعمال.. وفى نهضة مصر الحديثة بنى محمد على القناطر الخيرية على النيل، وبنى المدارس، واستقدم فى سبيل ذلك العمال المهرة من الخارج ليدربوا المصريين وليتعلم على أيديهم جيل من العمال المهرة، الصنايعية كما نطلق عليهم، وما زلنا حتى الآن نطلق على الماهر فى مهنته لقب «صنايعى»، يقول ذلك المهندس والكاتب والعامل عندما يبدع أحدنا نقول عنه «صنايعى».. ومع تغير الزمن ونظرة المجتمع التى تحولت من الفخر والإعزاز بمهنة الصنايعى إلى نظرة تقترب من الاحتقار.
اليوم ونحن نبنى مصر الجديدة نفتقر إلى هذا الصنايعى الماهر الذى يعيد البناء ويعيد أيضًا صورة العامل المهنى المصرى المحترف الذى كان يملأ الوطن العربى بخبرته وكنا فى الستينيات نعرف أن أفضل ميكانيكى هو فلان وأن أفضل كهربائى هو فلان وكان هو الآخر يفخر بصنعته وإجادته فيها.
وفى السبعينيات حافظنا على ذلك من خلال خريجى مدارس التدريب المهنى والمدارس الفنية.
ومع انهيار منظومة التعليم طال الانهيار التعليم الفنى فى مصر وساعد فى ذلك نظرة المجتمع إلى خريجى هذه المدارس الذين اعتبرهم المجتمع من الطبقة الثانية أو الأدنى وبفارق كبير عن احترامه لخريجى الجامعات، تحولت نظرة المجتمع إلى خريجى مدارس التعليم الفنى إلى أنهم عمال أو مساعدون، المهم أنهم الدرجة الأدنى فى مجتمع أصبح يقدس ويحترم حامل شهادة الجامعية فالأعلى وإن كان الزمان قد انتقم لهم فتساوى الجميع فى طابور البطالة.
طابور البطالة الذى طال حامل الدكتوراه والماجستير بدأ فى الآونة الأخيرة يستثنى المهنى أو العامل الجيد الذى أصبح هدفًا للسوق بعد فترة كنا نشهد فيها جميعًا حالة من الفوضى فى سوق العمالة فالجميع يعمل فى كل مهنة دون خبرة ولا احتراف ولا مهنية.
عندما تطلب مهنيًا معينًا يأتيك عشرة يدعون ذلك وتكون النتيجة حالا أسوأ لما كنت تريد إصلاحه.
التعليم الفنى إذن هو بداية بناء نهضة حديثة، تعتمد على خبرات معينة تتوافق مع احتياجات السوق.. فعامل البناء الآن أصبح يستخدم آلات وأدوات تختلف كلية عن السابق وكذا فى كل المهن.. ما يستوجب عاملًا تعلم كيف يدير الآلة ويحافظ عليها ويحقق بها الهدف.. العامل المدرب لكى يتعامل مع الماكينة أصبح من الضرورى أن يتعلم لغة أجنبية وأن يدرس مواد هندسية، وأن يكون له علاقة ما بالأجهزة التكنولوجية الحديثة.. فالعامل الزراعى اليوم لا يحمل فأسًا ولم يعد يعتمد على الماشية فى حرث وتسوية أرضه ولكن تحول إلى عامل يقود آلة زراعية، ويستخدم حسابات وأجهزة ليزر للرى والحرث.. كل المهن قياسًا على ذلك تحولت إلى مهن حديثة.. وما يحدث الآن فى مصر من شق لآلاف الكيلو مترات من الطرق والكبارى والإنشاءات فى المدن الحديثة والمصانع الأحدث وتطوير المصانع القديمة، كل ذلك لن يتم بشكل جيد إلا بعامل تدرب ودرس.. والطريق لذلك هو التعليم الفنى بكل تقسيماته الصناعية والزراعية وحتى السياحية والطبية وإذا كانت مصر تريد بناء النهضة الحديثة فعليها أن يكون التعليم هو مشروعها القومى وأن يكون فى القلب من ذلك التعليم الفنى.
ولدينا فى مصر أجيال من الشباب حبانا الله بها فى أهم فترة ديموجرافية تعيشها مصر حيث نعيش حقبة الدولة الشابة ونمتلك ثلثى السكان فى مرحلة الشباب والعطاء ومنهم مليون طالب فى التعليم الفنى.. مشروعنا القوى إذن يجب أن يعتمد على أن يقدم للسوق المصرية والعربية حوالى ٧٠٠ ألف فنى مدرب مؤهل سنويًا.. هذا العدد السنوى لن تستوعبه السوق المصرية ولكنه سيكون أهم مصادر الدخل فى مصر لو أعدنا تقديمه للسوق العربية بديلًا عن العامل الهندى والبنجلاديشى.. العراق مثلًا ستلحق به ليبيا وسوريا فى إعادة الإعمار تحتاج إلى سواعد الملايين المدربين، وفى السبعينيات والثمانينيات كانت تجمعات المصريين فى الدول العربية تعرف بأنها المكان الذى يبحث فيه دائما المستثمرون عن العمال المهرة.
لدينا إذن حوالى ثلاثة أرباع مليون عامل سنويًا تستعد سوق العمالة لاستقبالهم.. وعلى مستوى الجمهورية يشكل طلبة المدارس الصناعية حوالى ٥٢٪ من طلبة التعليم الفنى فى حين يشكل طلبة المدارس الزراعية حوالى ٣٥٪، والباقى ما بين التجارى والسياحى ولدينا فى مصر أكثر من ٢٠٠٠ مدرسة من مدارس التعليم الفنى، وهى مدارس لها تاريخ فى التعليم وتمتلك مبانى ومساحات واسعة تصل إلى حوالى ٤٠ ألف متر فى المدرسة الواحدة.
وأقترح على الدكتور طارق شوقى، أن يعيد توزيع خريطة هذه المدارس وربطها بمناطق التصنيع، بمعنى أن تكون المدرسة الصناعية بالمحلة وشبرا الخيمة وكفر الدوار مدارس صناعية نسيجية، وأن تكون المدارس الصناعية بالمناطق القريبة من حقول البترول والغاز مرتبطة فى مناهجها بطبيعة العمل بالمنطقة، ولعل بناء المدرسة النووية بالضبعة يكون الخطوة الأولى والأهم فى ذلك، وأن تنقل المدارس الزراعية من قلب المدن إلى قلب الصحراء والمزارع.. فليس هناك من جدوى لمدرسة زراعية فى مدينة مثل طنطا لا تملك المدرسة فيها مزرعة، ولكن يسافر الطلبة إلى مزارع قريبة وعلى بعد ثمانية كيلومترات تمتلك وزارة الزراعة مئات الأفدنة فى منطقة بحثية، فلماذا لا يتم نقل المدرسة إلى وسط هذه المزارع؟.. وكذلك لماذا لا تنشأ مدارس صناعية تهتم بالأسماك وتصنيع منتجاتها ورعاية مزارعها فى بركة غليون أو خليج السويس.
الخطوة الأولى كما أعتقد أن نعيد توزيع آلاف المدارس الصناعية والزراعية فى أماكن مرتبطة بتخصصات خريجيها واحتياجات المناطق القريبة منها سواء كان ذلك فى الدلتا أو الصحراء، وأن نعيد مدارس التدريب المهنى التى كانت تخضع لإشراف مشترك بين وزارتى الصناعة والتعليم، وأن يتحول الإشراف فى المدارس الفنية المتخصصة إلى إشراف مشترك بين الوزارة المختصة ووزارة التعليم.. إشراف مشترك فى المناهج والتدريس، وأيضًا وضع دراسات مسبقة عن احتياجات السوق فلدينا الآن آلاف المزارع السمكية ولدينا مشروع لاستصلاح مليون ونصف مليون فدان ولدينا مئات الأفدنة فى مزارع سخا بكفر الشيخ والقرشية بالغربية، ولا توجد مدارس فى هذه المناطق ولكن لدينا مدرسة زراعية بشارع الهرم بالجيزة وأخرى بشارع «الاستاد» بطنطا.
ربط المدارس بالمناطق التى سيعمل بها خريجوها وأيضًا بالمناطق التى توفر لهم بيئة صالحة للتدريب شىء مهم وهذا لن يتم فى القريب العاجل ولكن يجب أن يراعى فى المستقبل وأن نبدأ من الآن فى بناء مدارس جديدة بهذه المناطق ولن نحمل ميزانية الدولة لأن المبالغ المخصصة لبناء هذه المدارس سيتم تحويلها من حساب بناء مدارس أخرى على أن يتم استخدام مبانى المدارس التى سيتم نقل طلبتها كبديل لمدارس جديدة بالمدن.
وإلى أن يتم ذلك علينا أن نبدأ خطة عاجلة فى تطوير المناهج وإتاحة الفرصة للتدريب العملى وكان ربط مدارس صناعية بشركات كبرى وهو المشروع الذى بدأت هيئة الرقابة الإدارية فى إطار دورها المهم بإعادة التطوير والبناء وليس فقط مكافحة الفساد.. هذا الدور الأهم لهيئة الرقابة الإدارية والذى بدأوا فى تطبيقه لتوجيهات الرئيس ووفق متابعة من اللواء محمد عرفان رئيس الهيئة وبدأته الهيئة العام الحالى يربط ست شركات كبرى بست مدارس صناعية لتدريب خريجيها وأيضًا إلحاقهم بالعمل بها بعد التخرج هو خطوة مهمة وعلى نفس الدرب حققت حبيبة عز وفريق العمل الذى اختاره وزير التعليم للتطوير الفنى خطوة أخرى فى الإنفاق على شركات سيمنس لرعاية مدرسة صناعية وإلحاق خريجيها بالعمل بعد تدريبهم بشكل متقدم.
هذا الاتجاه يجب أن يتواصل فى كل المناطق وهو فرصة للشركات قبل المدارس فالطالب الذى ستدربه الشركات لمدة ثلاث سنوات وتساعده فى التعليم والحصول على شهادة حقيقية فى مجال تخصصه سيعود إليها عاملًا ماهرًا مدربًا يوفر عليها الآلاف من خلال عمله المتقن.
ولتكن حملة قومية تبدأ بربط المدارس بالشركات الكبرى تتلاقى فيها الأهداف فالتعليم سيضمن مناهج عملية صحيحة وإشرافًا فنيًا متقدمًا والشركات ستضمن عمالة ماهرة مدربة تلاحق التطور الحادث فى كل العالم.
والمهارات المطلوبة من خريجى المدارس الفنية لا يستطيع خريجو كلية الهندسة أو الطب أو الزراعة تلبيتها فالمصانع والشركات والأنشطة الاقتصادية تحتاج إلى فنى للتنفيذ فى البناء أو الكهرباء أو الميكانيكا والسيارات والصناعات الغذائية، والملابس الجاهزة والفندقة والتجارة والتمريض والرعاية الصحية، وإن كانت مهنة المهندس التصميم وإن كانت مهنة الطبيب هى الجراحة فإن الإثنين يحتاجان إلى من ينفذ التصميم وإلى من يرعى المريض، ونجاحهما مرتبط ارتباطًا وثيقًا بنجاح الطرف المكمل وهو خريج المدارس الفنية المتخصصة.
أيضا مطلوب أن نستفيد من منح دولية عديدة تقدم لدعم وتطوير التعليم الفنى ورفع كفاءة المعلم.
لكى نبنى يجب أن نعد من سيقوم بالبناء فى كل المجالات والخطوة الأولى لبناء مصر الحديثة هى بناء من سينفذون ذلك وهم خريجو مدارس التعليم الفنى.. لدينا ثروة تتمثل فى ٢٠٠٠ مدرسة و٢ مليون طالب ولدينا أسواق متعطشة فى مصر والوطن العربى ويتبقى إرادة التطوير ودعم من يقوم بذلك، ووضع خطط قابلة للتنفيذ ومتابعة جيدة.. مشروع قومى لمصر سيقدم لها أدوات المستقبل.. المشروع ليس مسئولية وزير التعليم وحده ولكنه مسئولية الحكومة مجتمعة، وأن نغيّر نظرة المجتمع لخريجى هذه المدارس فهو ليس أقل من خريجى الجامعة، بل هو أهم، ونحتاجه بنفس درجة احتياج خريج الجامعة إن لم يكن أكثر.