رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: جورج إسحاق نموذجًا


الرجال على مشارف الخمسين يصبحون أكثر حساسية، وتتأذى مشاعرهم سريعًا مع اكتشاف خديعة أو معلومة كانت خافية عنهم كل هذه السنين، ومع جلد الذات والشعور بالسذاجة والهطل يزداد غضبهم.. ليست هذه حكمة أو موعظة لكنها حالتى التى أصبحت عليها، فلم أكن أعرف أنه «عضو» بالمجلس القومى لحقوق الإنسان.. وإليك القصة من أولها:
يبدو المناضل «جورج إسحاق» بالنسبة لى كبطل لفيلم هوليوودى يُجسد فيه شخصية روائى كبير زاهد فى المناصب، بينما تزيده لحيته البيضاء الخفيفة وقارًا وهيبة، وكثيرًا ما رأيته فى تجمعات المثقفين بوسط القاهرة يظهر كقديس جاء يتفقد أحوالهم ويضيف بهجة سريعة ثم يمضى تلاحقه السلامات والقُبلات، فالبطل الذى كان منسقًا لحركة «كفاية» وعنصرًا فاعلًا فى «جبهة الإنقاذ» التى ساهمت فى إسقاط عصابة الإخوان، اكتفى من الحياة وضجيجها ويعيش فى صومعته منتظرًا نداء الوطن فى أى وقت ولحظة.

وعندما رأيته يتقدم الصفوف فى واحد من أسوأ أيام مصر (مارس ٢٠١٧) للإشراف على عمليات تسكين الأقباط المهجرين من العريش والنازحين إلى الإسماعيلية، تضخّمت صورته فى ذهنى ورأيته أيقونة مصرية حقيقية شمّرت عن ساعديها لتساند الدولة المصرية التى تتعرض لحرب إرهابية ضروس، وصلت حد احتلال أرضها وتشريد مواطنيها.

وكان لوجوده بالنسبة لى معنى كبير يحمل رسائل إلى العالم كله بأن مصر أرض الحضارات ومهد الرسالات لن تنال منها مجموعات الإرهاب والقتل، وستبقى بأقباطها ومسلميها هنا على خط المواجهة ضد أوهام الأوغاد، وكما تجسدتْ صورته فى ميدان التحرير وهو يقف كقبطى مصرى يحمى صلوات الثوار المسلمين، تجسدتْ صورته أمامى، حتى عندما أدلى بتصريحات أدان فيها الدولة واتهمها بالتقصير فى توفير حماية كافية للمطرودين، غفرتُ له هذا التصريح غير اللائق بموقف مأساوى تعيشه الدولة المصرية، غفرتُ له واعتبرته «زلة لسان» من رجل مُسن تتأذى مشاعره لرؤية أطفال مصريين يتم تشريدهم مع عائلاتهم تحت تهديد السلاح، غفرتُ له واعتبرته غضبًا زائدًا مما يحدث لمصر - أقباطها ومسلميها - على أيدى مجموعة الإرهابيين ومخلفات اعتصامى رابعة والنهضة وبقايا «مرسى راجع» التى تتخفى فى عباءة «داعش»، غفرتُ له ولم أغفر لعدد من الأهالى، الذين اعتبروا هذا التصريح «خيانة» وتواطؤًا ضد الدولة المصرية، وهاجموه وسبّوه وقذفوه بالحجارة.

أقول لكم.. إننى لم أكن أعرف أن الأستاذ جورج إسحاق عضو بالمجلس القومى لحقوق الإنسان، وتوقعت أن تكون مشاركته فى هذا الحدث الجلل واجبًا وطنيًا وليس بحكم منصب فى الدولة المصرية.
لم أكن أعرف أنه يعمل لدى الدولة ويتقاضى راتبًا شهريًا إلا بعد مشاركته فى مؤتمر القوى المدنية التى طالبت بمقاطعة الانتخابات الرئاسية!، ولم أعرف من نفسى بل من خلال صديقى محمد الباز الذى تساءل فى برنامجه «٩٠ دقيقة»: «كيف يكون جورج إسحاق عضوًا بالمجلس القومى لحقوق الإنسان، إحدى الجهات المنوط بها مراقبة الانتخابات، ويدعو إلى مقاطعتها؟!».
ما شغلنى وأطار النوم من عينى وجعلنى أشعر بمرارة الرجل الخمسينى المصدوم، ليس جهلى بمنصب جورج، ولكن «الخديعة» هى التى شغلتنى، الفارق الكبير بين الصورة الذهنية لمناضل تراه زاهدًا، بينما يضع قدمًا خفية على سلم السلطة، يجالس رجالها ليلًا ويظهر للناس راهبًا فى النهار، ومع ذلك ظل الأمل قائمًا فى أن تكون المعلومة غير صحيحة، ولم أتورع عن الاتصال بالصديق محمد الباز لأتأكد مجددًا منها، فأكدها، وتملكنى الغيظ فنقلتها إلى صفحتى على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» معبرًا عن صدمتى، وفوجئت بتعليقات لها العجب العجيب والدهشة الدهيشة!، خمسة من المعلقين تحدثوا بنبرة واحدة تقريبًا «وإيه يعنى.. عادى.. هو فيه حاجة كويسة فى البلد؟»، فتحسرتُ حسرة لا آخر لها، فنحن جميعًا مرضى نفسيون، وأنا أولكم.
أقول لكم إن ما شغلنى وأغضبنى ليس جهلى بالمعلومة، ولكن بقدرات البعض على خداعى ومراوغتى وملاوعتى وأنا فى الخمسين.. شىء مخجل أن تكتشف وجود مناضل بهذا الحجم والثقل فى منصب مهم بالدولة كل هذه الفترة من دون أن تلاحظ تغييرًا جوهريًا أو فضيًا فى منظومة حقوق الإنسان فى مصر، فالدولة استعانت به فى ملف يؤرق المعارضة، وكان الأجدر بمَن فى منصبه المهم وقدراته الهائلة على إدارة الحوار أن يقدم للرأى العام صورة واضحة حول ملف حقوق الإنسان والحريات، وأن يكون قبضة الدولة المصرية، التى يُمثلها، فى مواجهة أكاذيب وشائعات الإخوان وصحفهم فى الداخل والخارج، لكنه أمسك العصا من المنتصف، فأصبح كالشاى البارد مثل كثيرين من أبناء جيله الذين يُصرون على توريث «معارضة عرجاء» تهوى القفز والتنطيط، وتجيد الخداع وتتحصن بأكاذيب كبرى.
أقول إن هذا الجيل البائس الذى يُصر على توريث الهزيمة لن يصنع مجدًا، ولن يؤسس لمعارضة حقيقية، وربما كان الأمل والعزاء فى جيل آخر يمثله عدد كبير من شباب يناير، استعانت بهم الدولة المصرية بعد ثورة ٣٠ يونيو كأعضاء فى لجنة العفو الرئاسى وغيرها، والذين يعملون فى صمت تام، ويُحرزون نجاحات كبيرة فى ملفات المعتقلين وجدولة مواعيد خروجهم، ومراجعة الأحكام الصادرة بحقهم.. أما أولئك الذين أفقدونا الثقة فى تصوراتنا عن البشر وحقيقة أدوارهم فى الحياة السياسية والمدنية أيضًا.. فكفاكم ألاعيب، رفقًا بالمخدوعين السذّج أمثالى.