رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى يناير والإخوان.. ما جرى منهم وفيهم


ربما ظل الإخوان طوال شهور مضت منشغلين إلى حد كبير بمجموعة من القضايا التى لها علاقة بترتيب خطوات جديدة بالإقليم. والمقصود هنا هو مكتب إرشاد «التنظيم الدولى» القابع والعامل بتركيا منذ عام ٢٠١٣م، حيث تتمتع فيه تلك الشريحة القيادية بصلاحية الإدارة لكل ما له علاقة باستراتيجيات التنظيم، والمعنية باتخاذ قرارات العمل المشترك، والتنسيق ما بين الفروع بعضها بعضًا، من أجل تنفيذ خطوات على طريق تلك الاستراتيجية. ويحدد مكتب «التنظيم الدولى» بشكل صارم خريطة الأولويات الزمانية والمكانية التى سيتم العمل عليها وفق محدداتها بالانضباط المفهوم.
هذا النسق ربما ظل مفروضًا عليه قدر عالٍ من السرية فيما قبل ٢٠١١م، حيث كانت القدرة على فك شفراته حينها مقتصرة على الأجهزة الاستخباراتية والأمنية، التى كان يُوكل إليها تتبع تحركات التنظيم وأعضائه، بل وأيضًا عقد صفقات أمنية أو سياسية معه. كان هذا يجرى فى الدول التى لديها أفرع للتنظيم أو كتل معتبرة من أعضائه، لذلك لم يكن مفهومًا حينها بعض المفاجآت أو الخطوات السياسية التى كان يستيقظ عليها المواطنون فى تلك البلدان، لتأتى بعدها بسنوات التفسيرات وأسرار الكواليس، كى تكشف ضبابية المشهد، وتُفصح عن غموض الصور.
فيما بعد يناير ٢٠١١م، وخاصة بعد الاطمئنان على قدرة الحراك الشعبى فى إزاحة نظامين سياسيين، هما نظام بن على التونسى ونظام مبارك فى مصر- انزاح الكثير من الستائر السميكة، ليخرج «التنظيم الدولى» ليلعب أدواره أمام الجمهور مباشرة، ولم يكن أكثر المتفائلين من المراقبين يظن يومًا أنه من الممكن متابعة صفقات الإخوان السياسية وهى تُعقد على هواء شاشات التلفاز، وتستقر أمام جمهور المشاهدين على شريط الأخبار العاجلة. جرت تلك الصفقات على خلفية حالة السيولة العنيفة التى ضربت المنطقة برمتها، وفى الدول التى جرت فيها تحركات شعبية وغيرها، حيث تم الإلحاح بصورة لم تكن مريبة حينها على مقولتين، كادتا تكونا هما الأساس فيما يبدأ به أى شخص حديثه أو يُنهيه: الأولى، إن «الإخوان» هم الفصيل الأكبر والأكثر جاهزية وانضباطًا فى الحقل السياسى بالمنطقة.. والثانية، تلخصت فى ضرورة إشراكهم فى القلب من ترتيبات أىٍّ من خطوات المستقبل.
وكان لضمان نفاذ وفاعلية هاتين المقولتين ضريبة يلزم سدادها، تمثلت فى مزيد من الانكشاف لما ظل وراء الستار لعقود مضت. منها على سبيل المثال أن النظام التركى لحزب «العدالة والتنمية» هو القائد السياسى الدولى للتنظيم، وأن «رجب أردوغان» هو العرّاب الذى صاغ المقولتين وسوّق لهما فى أروقة الأنظمة الغربية، ووجد لدى الإدارة الأمريكية ونظيرتها البريطانية آذانًا وعقولًا جاهزة لتبنى هذه الأطروحات، بل والدفع لفرضها على ما آل إليه الأمر بعد الثورات العربية. ولهذا أيضًا لم تتعطل طويلًا السيناريوهات البديلة فى البلدان التى لم يكن التغيير فيها سهلًا، مثل: ليبيا واليمن وسوريا.
وتمكنت الدول الخليجية- والسعودية بالأساس- من الاستحواذ السريع على ملف ما يجرى فى اليمن، لدقة ارتباط تلك الدولة بجوارها من دول مجلس التعاون، واستطاعت الدبلوماسية السعودية أن توفر مخرجًا سُمى بـ«المبادرة الخليجية»، يستطيع احتواء الحراك الشعبى وفى الوقت ذاته يضمن نقلًا سلسًا للسلطة. وفقط لما يمثله الوزن السعودى فى الإقليم، ترك المشهد اليمنى ليسير وفق هذا النسق، وإن كان هو الآخر لم يغفل تقديم «حزب الإصلاح» المكون الإخوانى اليمنى، لتكون له اليد العليا والدور المستقبلى فى هذا الانتقال.
الانكشاف الثانى الذى بدا سريعًا مع تلك الأحداث أن النظام القطرى هو عضو رئيسى وطموح داخل المكون الدولى للتنظيم. فلم يكن سيقبل بعد مساحات اللعب المفتوح التى تبدت فى بلدان عدة أن يظل مجرد محفظة مالية ومنصة إعلامية للتنظيم، فى الوقت الذى أغراه البدء فى تنفيذ السيناريوهات البديلة فى كل من ليبيا وسوريا. وهذا فسر لاحقًا طبيعة وحجم كلا الدورين التركى والقطرى على ساحتى العمل الليبى والسورى. ففى الأولى كانت هناك قدرة على إثارة حماسة المجتمع الدولى، لحشد تدخل عسكرى لـ«الناتو» كى يُجهز على نظام القذافى، من أجل ضمانة الانتقال للمربع الذى يليه.
وفى سوريا، تصدت تركيا لمهمة إغراق «الثورة السورية» بالميليشيات والعناصر المسلحة عبر حدودهما المشتركة. وتمثل العمل التنسيقى لـ«التنظيم الدولى» المشار إليه فى كيفية إدارة العمل المشترك ما بين الساحة الليبية والسورية، ليعمل كلاهما من أجل الوصول لهدف واحد. وهذا ما تم فعليًا فى عامى ٢٠١٢ و٢٠١٣م، عندما استُخدمت الفوضى فى داخل ليبيا، من أجل إنشاء وتجهيز معسكرات إعداد وتأهيل المقاتلين، وهُم من سيتم شحنهم للالتحاق بالتنظيمات السورية عبر ومن داخل الأراضى التركية. وهذا ربما يجيب عن تساؤل: ما الذى جعل لتركيا وقطر -وما زال- هذه الأدوار التى التصقت بهاتين الدولتين على وجه الخصوص؟.
بطبيعة تدافع الأحداث، كان من الضرورى أن يكون هناك المزيد من الانكشافات، ليبرز أن لهذا «التنظيم الدولى» فروعًا وارتكازات أخرى، ليست مقتصرة فقط على تركيا وقطر، وهذا أفصح عن نفسه بمجرد وصول الإخوان للحكم فى مصر وتونس. فخريطة التحالفات والترحيب بالأنظمة السياسية الإخوانية الوليدة، جعلت المشهد يضم أيضًا السودان كعضو رئيسى فى هذا النادى، فضلًا عن مجموعة من الأحزاب تتوزع فى مجموعة من البلدان، البعض منها يحظى بقدرات مؤثرة مثل الأردن والمغرب، وأخرى تأتى فى مرتبة تالية للقوى التقليدية فى بلدانها مثل، الكويت واليمن وليبيا.
ويعمل لخدمة هذا المشروع، كم هائل من المحافظ المالية والمنصات الإعلامية، القادرة على خدمة المشروع، حيث تكلف من قبل مكتب إرشاد «التنظيم الدولى» بمهام محددة. يجرى صياغتها والنظر إليها باعتبارها تقدم خدمة الوصول للأهداف الاستراتيجية الكلية للمنظومة، لكن ربما المأزق الذى أصبح يقض مضاجع هذا المكتب وأعضاءه أن يناير ٢٠١١م أسقط كل الحجب، وأصبح العمل السرى يتم تحت أضواء وعيون الجميع، وما كان مشفرًا فى الماضى أصبح اليوم يُنادى عليه بأسمائه الحقيقية.