رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نادى علاء الأسوانى


الرواية انقسمت بين مجتمع السادة الحقيقيين، ومجتمع العبيد، ليس مجتمع السادة هو أعضاء نادى السيارات، ولكنه مجتمع المصريين الحقيقيين الذى يأنفون من الظلم ويقاومونه ولا يحبون الاستبداد ولا يمارسونه، ومجتمع العبيد والخدم هو مجتمع الانقياد والإهانة والذل الذى غلفونه فى صورة جميلة حتى تقبله النفس التابعة المنقادة.

بعد أن قرأت رواية نادى السيارات للكاتب الروائى الكبير علاء الأسوانى قابلته فى إحدى المناسبات فسألته: هل سبق لك الانضمام إلى جماعة الإخوان فى مراحل شبابك الأول؟ بوغت الأسوانى بالسؤال، لابد أنه قال فى نفسه وقتئذ: «يبدو أن الإخوان تركوا فى نفس ثروت هاجسًا يخيل له من خلاله أن كل شخص كان من الإخوان» وأكاد أوقن أنه استطرد قائلاً لنفسه وهو يمعن النظر فى وجهى «يخيل لى أن ثروت ينظر لى وكأنه على وشك أن يصيح فى وجهى قائلاً: أحمد ممتاز، أنت أحمد ممتاز، أنت غريمى أحمد ممتاز» وأحمد ممتاز هذا لمن لا يعرف هو الدور الذى مثله الراحل صلاح نظمى فى فيلم «ليالى الحب» مع عبد الحليم حافظ الذى كان اسمه أيضًا فى الفيلم أحمد ممتاز.

وفى الفيلم حدث التباس عند صلاح نظمى فظن أن بعض أبطال الفيلم هم غريمه أحمد ممتاز، فأخذ يصيح فى كل واحد منهم «أنت أحمد ممتاز»، كان مشهدًا عبقريًا لا شك فى ذلك، ولأن ابتسامة الأسوانى ظلت معلقة على شفتيه لا تريد أن تغادرها إلا بعد أن أترك له توضيحًا للسؤال، لذلك فقد عقبت على ابتسامته قائلاً: لا يمكن إلا أن تكون قد دخلت جماعة الإخوان من قبل ! فقال لى وهو يبدى اندهاشه: لماذا تقول هذا؟! قلت: روايتك الجديدة نادى السيارات تدل على هذا، انبسطت أساريره وسألنى: أى موضع من الرواية دلك على هذا؟ قلت له: ستقرأ رأيى قريبًا فى المصرى اليوم.

علاء الأسوانى روائى محترف يجيد صنعته، لديه قدرة فائقة على ربطك بالرواية فلا تستطيع أن تفارقها إلا بعد أن تأتى عليها،وفى ذات الوقت يجيد تصوير شخصيات الرواية والدخول فى أغوارها، واستنطاقها من خلال مواقفها ليكشف خبيئة نفسها، زمن روايته هو فترة الأربعينيات، وقد قامت الرواية على عمودين رئيسيين وبجوارهما عدة أعمدة فرعية، العمود الأول هو شخصية الصعيدى الحر الكريم صاحب المروءة والنخوة عبد العزيز همام، ابن الهمامية، الذى أخنى عليه الدهر، وبعد أن كان من أثرياء بلده ووجهاء قومه أصابه الفقر، وما أصابه إلا بسبب رعونته فى الكرم والإغداق على الآخرين بحساب ومن غير حساب، فاضطر عزيز قوم الذى ذل أن ينزل ـ هو وزوجته المصرية الصميمة بنت الأصول وأولاده الصغار الذين لم يشبوا عن الطوق ـ إلى القاهرة لتكون موئلاً له من غوائل الأيام، ولكن القاهرة قاهرة، وكما يطوى الموت صفحات حياة، تطوى الحياة نفسها صفحات من عمر الزمن، ولكل زمن حال، ولكل حال رجال، وما كان بالأمس ليس بالضرورة أن يبقى اليوم، وما هو صائر اليوم ليس بالضرورة أن يكون غدًا، لا شىء ساكن فى الحياة، كل شىء يتحرك.

الحركة الدائبة هى سر الكون، فالحركة هى إثبات لمرور الزمن، قال أحد الفلاسفة «إنك لا تنزل النهر مرتين» كان يقصد أن مياه النهر تسير فى طريقها ولا تعود أبدًا، وحين تسير يأتى خلفها مياه أخرى، تتغير وتتبدل المياه فيصير النهر نهرًا آخر غير الذى نزلت فيه من قبل، والنهر الذى نزل فيه عبد العزيز الهمامى ليس هو نهره الذى يعرف مياهه، كان يجب أن يحتاط للزمن ويدرك مواضع أقدامه، ولكنه ما أن حصل على وظيفة بسيطة كمساعد أمين مخزن نادى السيارات، حتى استأجر شقة تليق بالأسرة الهمامية وبمكانته السابقة، يدفع من أجلها إيجارًا باهظًا، وفوق هذا وضع على كتفيه أحمالاً لا يطيقها، ولكنه صعيدى حر، لذلك استأجر حجرة على سطح العقار الذى به شقته ليستقبل فيها ضيوفه وأقاربه الذين يفدون إليه من البلد، يتكفل بنفقات إقامتهم وطعامهم، فبيت الهمامية يجب أن يظل مفتوحًا للجميع.

هكذا هو المصرى الأصيل فى صورته الحقيقية غير الزائفة، لذلك عندما انهال عليه أحد كبار الخدم فى نادى السيارات صفعًا على وجهه، بعد أن قيده باقى الخدم والعبيد، كانت هذه هى لطمة الزمن، شعرتُ بك يا أيها المصرى الأصيل عبد العزيز وأنت تتلقى هذه الضربة، وانفعلت مع انفعالك، ولكن انفعالك كان مختلفًا، كان انفعال العزيز الذى لم يقبل الإهانة ولكنه كان قليل الحيلة، فمنع دموعه من أن تُذرف حتى لا يُظهر ضعفه أمام الرجال الذين تعاطفوا معه، ولكنه فى ذات الوقت لم يستطع أن ينبس ببنت شفة، فلو تكلم لفضحه صوته ولغلب عليه بكاؤه الذى كان ينزف فى داخله.

أما العمود الثانى للرواية فهو يتمثل فى شخصية «الكوو» كبير خدم الملك، والمشرف على هذا المجتمع العبيدى الذى تغلبت عليه خصال العبيد، تستطيع أن تدرك من أول وهلة أى مجتمع هذا ومن يمثل، هم عبيد الملك وخدمه الذين يعملون فى القصور الملكية ونادى السيارات الذى يرأس الملك مجلس إدارته ،ويمثل الكوو الملك فى مجتمع العبيد والخدم، كلمته لا راد لها، ولا يمكن لأحد فى هذا المجتمع مهما كان قدره أن يعارضه أو يعترض على قراراته مهما كانت غريبة، بل إنهم يبررون له كل فعل وكل تصرف ويلهجون بحمده ليل نهار، ولذلك فإن الذى يلتحق بهذا المجتمع يجب أن تتم تهيئته أولاً وتعليمه وتدريبه، يجعلونه يخوض دورات ليفهم دقائق العمل وأصول الطاعة المطلقة ،ومع ذلك فإن هذا المجتمع لا يفتح أحضانه لأى وافد إذ لا يستطيع أحد أن يذهب إلى الكوو ويقدم أوراقه للالتحاق بالعمل، فدونه وذلك خرط القتاد.

ولكن الكوو هو الذى يرسل عيونه إلى جنوب مصر لتختار له من تركن إلى ميوعة شخصياتهم وضعفها وقدرتها على الطاعة وتحمل الإهانة، فى مجتمع العبيد يجب أن تكون مهانًا ومستمرءًا للإهانة، وحين دخل «عبود» أحد الخدم الجدد إلى هذه المنظومة بناء على واسطة لم يقدر الكو على رفضها، هاله هذه الإهانات، فوقف مواجهًا إياها، رافضًا طريقتها، عبود رأى أنه عبد لله فقط وليس عبدًا لبشر، وأنه هنا يؤدى عملاً، ويجب ألا يتعرض فيه لضرب أو إهانة، وهو لن يطيع إلا إذا كانت الأوامر إنسانية ومنطقية، وقاد عبود تمردًا فى هذا المجتمع، وانضمت له مجموعة تؤازره، ولكن من هو أول من وقف ضد عبود؟ ليس الكوو، ولكن أول من وقفوا ضده هم باقى الخدم والعبيد الذين أصبحت الإهانة جزءًا من حياتهم، هم الذين حاربوه ومكروا به، وهو الذى كان يسعى من أجل تحريرهم.

هذه الرواية انقسمت بين مجتمع السادة الحقيقيين، ومجتمع العبيد، ليس مجتمع السادة هو أعضاء نادى السيارات، ولكنه مجتمع المصريين الحقيقيين الذى يأنفون من الظلم ويقاومونه ولا يحبون الاستبداد ولا يمارسونه، ومجتمع العبيد والخدم هو مجتمع الانقياد والإهانة والذل الذى غلفونه فى صورة جميلة حتى تقبله النفس التابعة المنقادة، فتظن أنها فى أعلى مراتب السيادة وهم فى الحقيقة فى أذل مواضع العبودية... هل عرفت يا أستاذ علاء لماذا سألتك سؤالى.. هذان مجتمعان فأيهما كنت أقصد؟.

■ قيادى سابق بجماعة الإخوان المسلمين