رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الملسوع


«.. واضح إنى عصرت الليمون فى مؤخرتى»، قالها صديقى الثورى الاشتراكى ونحن نعبر شارع مراد فى اتجاه جامعة القاهرة، ثم ضحك عاليًا ساخرًا من نفسه، فلم يترك لى فرصة السخرية منه أو الشماتة فيه وفى عقله الذى أصيب فجأة باختلال دفعه دفعًا ليضع صوته فى صندوق الجماعة التى يختلف معها كليًا وجزئيًا!.
كنا فى قيظ أغسطس ٢٠١٣، وعلى بُعد خطوات قليلة من مستعمرة الإخوان فى محيط ميدان النهضة، والشوارع خانقة، ورائحة العرق والجهل والفقر والخوف والترقب تتسرب إلى الروح وتعكس الكآبة والإحباط، حتى على حيوانات حديقة الجيزة العريقة، وتمتد إلى تمثال نهضة مصر الذى لطّخوه بالحبر الأسود، ونكّس صديقى رأسه فى الأرض خجلًا مما فعل ومن نتائج الحماقة التى أوصلتنا إلى هذا الدمار والخراب، فقد كان واحدًا ممن صوتوا فى انتخابات الرئاسة ٢٠١٢ لمحمد مرسى هربًا من التصويت للفريق أحمد شفيق، الذى تلطّخت يداه بدم شهداء يناير، حسب التوصيف الثورى، ولم يكن أحد من أهل اليسار يختلف على هذا التوصيف، فلم يكن شفيق بريئًا من جرائم القتل فى ميدان التحرير، ولم يكن بعيدًا عن منظومة الفساد التى ثار الشعب ضدها فى يناير، ولكن هذا لا يعنى التصويت لجماعة إرهابية تقول كل دلائل ووقائع التاريخ إنها تنظيم يُؤمن بحسن البنا وتعاليم سيد قطب ومواعظ المرشد أكثر من إيمانه بالله وبمصر كوطن وأرض وحضارة، وإنه تنظيم على أتم استعداد للقتل والترويع فداءً للمرشد العام وتعاليمه وأوامره ونواهيه، ولا يحتاج مثقف متواضع المعرفة إلى دليل على كل هذا، لكنها العقول التى تستريح لتصوراتها الساذجة أحيانًا، فإن كان عشرات من أهل اليسار اختاروا كومبارس الجماعة الإرهابية رئيسًا لمصر هربًا من ارتكاب جريمة التصويت لقاتل ملطّخ بالدم ومكلل بالعار، فإن عشرات مثلهم صوتوا لشفيق خوفًا ورعبًا من صعود جماعة القتل والإرهاب، وبين الفريقين امتنعت جموع من المصريين عن المشاركة فى تلك الورطة التى لن تنُسى مهما طال الزمن.
وها هو الزمن لم يطُل بعد، ولم يمضِ سوى أربع سنوات على ذكريات الأسى والخراب الذى امتد فى شوارع مصر من «رابعة العدوية» بمدينة نصر إلى ميدان النهضة فى الجيزة، وقابلتُ صديقى منذ أيام قليلة ووجدته متحمسًا لظهور أحمد شفيق بشكل أثار دهشتى واستغرابى وشفقتى أيضًا! ها هو نفسه بشحمه ولحمه يقف أمامى الآن ليتحدث عن عودة أحمد شفيق كحدث سياسى مهم!.
شىء أكبر من الخيال وأسود من الواقع، ويدفع للجنون وشد الشعر وتمزيق الملابس أيضًا! ولم أملك أمام هذا المشهد العبثى إلا تذكيره بما قال وبالليمون الذى عصره فى مؤخرته وظل يلسعه ويؤلمه حتى تخلصنا من الجماعة بثورة شعبية فى ٣٠ يونيو، ألم يكن واحدًا ممن فقأوا عيوننا وهم يهتفون لمحمد مرسى باعتباره طوق النجاة من القاتل الملطخ بالدم يا رب العالمين؟! ألم يكن يرى الممتنعين عن التصويت للمعزول خونة وشركاء فى الدم؟! ألم يكن يتبجح ويتعرى ليهتف للإسلاميين فى مواجهة «دم الثوار»!! هات لى عقلك ده وأنا أقول له.. البعيد لازم نوصله.
ولأنك لن تعطينى عقلك ولن أقول له شيئًا، فقد قررتُ شطب عبدالرحيم أحمد المنشاوى من قائمة أصدقائى حتى الممات، فمن الصعب التعامل مع شخص يمتلك كل هذه الوقاحة وهذا التبجح فى اعتناق أفكار متناقضة كل التناقض ومتلونة كل التلون وكاذبة كل الكذب، فقد غفرنا له خطيئته السابقة، واحتمل هو توبيخنا له وتوصيفنا له بـ«الملسوع» وأبدى الأسف والندم وشارك فى صناعة ثورة يونيو ضد من جاء بهم، لكن أن يقف أمامى اليوم ويتحدث بلا خجل عن «شفيق» مجرد حديث فقط، فتلك هى النهاية التى لا عودة بعدها إلى صديق «ملسوع».
قرأ «عبدالرحيم أحمد المنشاوى» كتابات كارل ماركس وتأثر بتروتسكى، وجاء مع جيل الثمانينيات للثورة ضد أجيال اليسار القديم الخاضع والخانع للاتحاد السوفيتى، واعتبر نفسه جزءًا من منظمة «الثوريون الاشتراكيون» التى كانت حاضرة بقوة فى ميدان التحرير، وعندما اختار التصويت لمحمد مرسى كان أضحوكة الليبراليين وغيرهم كنموذج صارخ على التشوه العقلى، لكنه مع كثيرين من أهل اليسار لم يتأثر بكل الساخرين، ووقف يدافع بشراسة عن معسكر الجماعة الأكثر بياضًا من معسكر القتلة بقيادة أحمد شفيق، الذى كان مجرد ذكر اسمه عارًا يُلطّخ سمعة كل من ثار وشارك من بعيد أو من قريب فى يناير ٢٠١١.