رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هناك من يصنع التاريخ.. وهناك من يصنعه التاريخ


فى رحلة حج منذ أحد عشر عامًا شاء الله أن ألتقى فى المدينة المنورة وفى المسجد النبوى الشريف برجب طيب أردوجان، لم يكن الرجل معروفًا للعالم وقتها ولكن بعض الشباب التركى الذين تعرفت عليهم حينئذٍ قدمونى له بعد أن رووا لى سيرته، وحين تكلم الرجل

معى بعقل متقد وعاطفة دينية مشبوبة ونحن نجلس فى موضع أهل الصفة بجوار قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أدركت أننى أمام شخصية فريدة ستصنع تاريخًا، شخصية لم تجعل من تركيا دولة تخضع لتجربة ولكن جعلت من تجربتها إضافة لتركيا.

يقينًا لا يمكن فهم أبعاد هذه التجربة وقراءتها قراءة صحيحة قبل معرفة ما جرى فى تاريخ تركيا الحديث لا سيما فى أعقاب الحرب العالمية الأولى حيث تم القضاء على الخلافة وخرجت إلى الوجود جمهورية تركيا الحديثة التى خلعت العمامة وارتدت البرنيطة الغربية وظلت تتبختر وسط الدول الأوروبية على أمل أن تقبلها أوروبا كمجرد محظية!! وفجأة تتغير ملامح تركيا بعض الشىء، إذ على حين غرة يخرج من قلب الحركة الصوفية التركية ومن مجموعة طلاب النور الصوفيين رجل يدعى عدنان مندريس حيث يقوم بتأسيس الحزب الديمقراطى ليكتسح به الانتخابات ويصبح رئيسًا لوزراء تركيا عام 1950 رغم أنف السلطة العسكرية العمياء.

ورغم أن عدنان مندريس لم تكن له منهجية أو رؤية واضحة لحكم يرتكز على مقاصد الشريعة فقط مجرد مشاعر دينية مشبوبة إلا أنه وبجرأة اقتحامية قام بالقضاء على بعض القيود التى كانت تحول دون فتح المدارس الدينية كما سمح ببعض الحرية المتعلقة بالآذان وبالنسك التعبدية.

ولم يستسغ الجيش هذه الجرأة التى لم يعهدها فى أحد طوال عهد مصطفى أتاتورك وخليفته أينونو فما كان من الجيش عام 1960 إلا أن قام بالطغيان على المدنية التركية ووأد تجربتها وأطاح بحكم عدنان مندريس.. والحقيقة أنه لم يطح بالحكم فقط ولكنه أطاح أيضًا برأس مندريس عندما أعدمه وأعدم اثنين من وزرائه.

ومن قلب حركة طلاب النور خرج تلميذ مندريس المهندس نجم الدين أربكان مهندس المحركات ليقوم بتشغيل محرك الحركة الإسلامية بحزب جديد أنشأه ليعمق التجربة ويحدد أطرها، وحصل أربكان على شعبية كبيرة مكنته من الفوز بنسبة عالية فى الانتخابات التركية وبذلك أصبح أربكان عام 1996 رئيسًا لوزراء تركيا فى حكومة ائتلافية مع السيدة تانسو تشلر.. وكانت أولويات المهندس أربكان الإسلامية هى ذاتها الأولويات التقليدية للحركة الإسلامية، وكان يرى أن تركيا ينبغى أن تنفصم عن الغرب وتعود مرة أخرى للشرق فهى - أى تركيا ـ فى رأيه ستكون ذيلاً فى الغرب ولكنها ستكون رأسًا فى الشرق، لذلك سعى أربكان إلى إنشاء مجموعة الدول الثمانى حيث اختار أقوى الدول الإسلامية وأكبرها وتفاوض معها لإنشاء تحالف اقتصادى وسياسى يرفع من شأن الجميع، وكانت نظرته لتركيا تقوم على تحويلها إلى دولة صناعية كبرى حيث كان حلمه الأكبر أن تصبح تركيا مصنع المسلمين.

كانت كثير من هذه الأولويات تختلف عن أجندة المؤسسة العسكرية الحامية للغربانية لذلك اعتبر الجيش أن أربكان خرج عن دستور الدولة فقام بالاصطدام به وعزله عام 1997وإلى المحاكم سيق أربكان.. ولكن رجب أردوجان ورفقة من الشباب الذى شب عن الطوق ضاق بهم المقام فى حزب «الرفاة» ووجدوا أنه من الأفضل أن تعيد الحركة الإسلامية صياغة نفسها بأجندة مغايرة للأجندة التقليدية، فخرجوا من حزب الرفاة وأسسوا حزب «العدالة والتنمية» وقدموا أنفسهم للرأى العام بشكل يختلف عن الصورة التقليدية للحركة الإسلامية.

طرح أردوجان أجندته التى تتلخص فى السعى لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبى وتحويل تركيا إلى منطقة تجارة حرة حيث ينتعش الاقتصاد وقال إن الحزب لا يتوقف أمام المظاهر الإسلامية كالحجاب ولكن أولوياته تسعى إلى استجلاب المساواة والحرية والديمقراطية الحقيقية إلى تركيا، كما قرر عدم إصدار قانون يمنع البغاء وقال إن منع البغاء يكون بالبحث عن جذور المشكلة اجتماعيًا وتوفير فرص عمل شريفة لمن يمارسن البغاء، كما ناقش فى أجندته ضرورة تقليص سلطات الجيش لتصبح وظيفة الجيش مطابقة لوظيفته فى البلدان الأوروبية.

لم يتوقف أردوجان عند التسميات والأسماء، ولم يأنف من أن يطلق على حزبه بأنه «راعى العلمانية» وأن يضع صورة أتاتورك على مدخل الحزب.. ولكنه اهتم بالمضمون الذى يقدمه، وطبعًا نجح أردوجان وحزبه فى الانتخابات نجاحًا غير مسبوق.

وطوال عدة سنوات أنجز عدة إصلاحات دعمت الاقتصاد التركى فتراجعت نسبة التضخم إلى حد كبير، وزادت قيمة الليرة التركية واستعادت قوتها الشرائية.. كما ارتفع حجم التصدير السنوى وأنجزت حكومة أردوجان «مشروع النفق تحت مياه مضيق البوسفور» فى أسطنبول الذى يربط آسيا بأوروبا عن طريق سكة حديد وعن طريق السيارات، وأنجز ما يقارب مائة سد ما بين كبير ومتوسط وصغير.

وأمام هذه الإنجازات زادت شعبية حزب العدالة والتنمية فها هى القيم الإسلامية يتم تطبيقها على أرض الواقع دون طنطنة أو دندنة أو شعار وتحولت تركيا من حيث التطبيق إلى أمة حضارية تطبق المعانى دون أن يتوقف عزمها عند الشعارات، فأصبحت مصانعها أرضًا للإبداع التقنى والتنفيذى... وفى سابقة لم تحدث فى تركيا من قبل تم حل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية للعاملات فى البغاء الأمر الذى أدى إلى اعتزال سبعين بالمائة منهن حتى الآن.

وإذ أصبحت شعبية أردوجان وحزبه فى عنان السماء كان له أن يفرض كلمته فالحاكم الذى يستند إلى شعبه بعد الله سبحانه وتعالى لا تستطيع قوة مهما كانت أن تهدده أو تقوّض أركانه، وعندما آن لأردوجان أن يقلل من هيمنة المؤسسة العسكرية قام بتبديل قانون (اللجنة العليا للأمن الوطنى) إذ كانت هذه اللجنة مشكلة من المدنيين والعسكريين إلا أن العسكر سيطروا عليها.. فكان أن اعتبر القانون الجديد قرارات اللجنة استشارية وليست ملزمة للحكومة.. كما استبدل أردوجان السكرتير العام لهذه اللجنة من جنرال إلى مدنى.

كانت هذه تجربة ناضجة لم تتوقف عند الأسماء والشعارات بل بحثت عن حلول غير تقليدية لنهضة بلادها، لذلك كان من الطبيعى أن نشد على يد أردوجان ونقول لأصحابنا الذين يزعمون أنهم يمتلكون ماء السماء الطهور : اعلموا أن أردوجان صنع تاريخًا أما أنتم فقد صنعكم التاريخ