رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أعمى ينتظر الميكروباص فى عبدالمنعم رياض


رزعنى الولد لُكَّمية واحدة، وبعدها لم أر شيئًا، ضربة قوية ارتج معها جسدى، كنا قد وقفنا بميدان عبدالمنعم رياض ننتظر سيارات الشيخ زايد والحصرى، وبدأت الأعداد تتزايد، وكلما تأخرت السيارات تناثر بين المنتظرين بنات وسيدات محجبات وغير ذلك ممن تراهن فى كل مواقف مصر ما بين فتيات جامعيات وموظفات وعاملات فى محلات ملابس وغيرهن.

فجأة تدافعتْ كل هذه الأعداد نحو سيارة واحدة، فامتلأت السيارة بعد حشر وزق وشد وجذب، واللى يلحق مقعد كأنما قبض على الدنيا بما فيها، وهذا حقه، فالمقعد لمن سعى إليه، وليس لمن ارتكن إلى ضعف وقلة حيلة مثلى، أو إلى خجل وتأفف وضيق وعجز كتلك الفتيات الحائرات أمامى أنا الضعيف أبو جاكيت وبنطلون!، وعلى مدار ساعة كاملة تكرر المشهد وانتقل توتر الفتيات الصغيرات إلى قلبى أنا الأب الذى أجلس متوترًا غاضبًا إن تأخرتْ إحدى ابنتىّ، واقتربت الساعة من الحادية عشرة مساءً وزاد توترى فتجرأت وفعلتها: «ركّبوا البنات والستات الأول .. أخواتنا وإخوتكم يا جمااا....»، وقبل أن أكمل «عة» كانت قبضة الشاب الطويل تأخذنى إلى الظلام التام، فتمنيتُ «العمى» وأنا أسقط ما بين الوعى وعدمه، غابت الألوان وتماهى البشر وأصبحت أعمى، وكنتُ سعيدًا غارقًا فى ابتسامة أشعر بها تملأ وجهى، إنه «العمى» العظيم، العمى فقدان البصيرة، لكن القلوب المضيئة هى التى ترى وتسمع، الروائيون والفلاسفة والحكماء وعلماء النفس أجمعوا على هذا المعنى وصاغوه بطرق مختلفة عبر تاريخ الكتابة، وأنعمت علينا الحياة بنماذج متعددة لعميان يبصرون ويصنعون البهجة، وأصبحنا نمتلك عشرات القصص والحكايات عن عظماء وظرفاء وحكماء وموهوبين منحهم الله نور البصيرة وأصبح للعمى بهجة خاصة وطعم من عسل الجنة، بهجة جعلت «عمار الشريعى» يملأ كفيه بالموسيقى وينثرها علينا ورودًا وجعلت سيد مكاوى يشرب نغم الأوتار ليروى وجداننا، وجعلت «آل باتشينو» فى فيلم «عطر امرأة» يعيش لحظاتها وهو يرقص كريشة، وألهمت فؤاد حداد ليقول: «يا ريتنى أعمى أشربك باللمس»، وجعلت فى حياتى الصديق الصحفى «على الفاتح» وصديقى الملحن» الشيخ علاء»، ولولا بهجة العمى التى عاشها الأرجنتينى «بورخيس» عندما فقد بصره فى مطلع حياته ما وصل إلى العالمية، وهى نفس البهجة التى كتب بها البرتغالى «ساراماجو» روايته الخالدة «العمى»، وصنع بها النحات المصرى العظيم محمود مختار رائعته «العميان الثلاثة». وذات يوم وقف النحات الراحل عبدالوهاب الوشاحى أمام «طه حسين» ليبحث عن النور الذى ملأ قلبه، ورأى النحات ضوء النهار يطل من العينين ويخرج منهما نورًا.. وأنا الآن فى «نور»، احتضن تمثال الشهيد عبدالمنعم رياض وأنام، ربما تعود الفتيات إلى دفء البيوت وتطمئن القلوب.