رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

درس الصين العظيم «1»


عدت من زيارة الصين، و«العود أحمد»، كما يقولون، وإذا كان فى السفر سبع فوائد، حسب القول المأثور، ففى السفر إلى الصين بالذات، سبعون فائدة، إن لم يكن أكثر، ولقد عرفنا عن الرسول الكريم «ص»، توجيهه: «اطلبوا العلم ولو فى الصين»، وهو أكبر دليل على أن شعوبنا كانت منذ القدم، على دراية بتمدن الصين القديمة، وعلى إدراك تقدمها فى العلوم وصناعات التقدم، إذ كانت حضارة الصين معروفة لدينا، قبل نحو ألف وخمسمائة عام، وهو أمرٌ طبيعى، فالصين دولة عريقة، عمر حضارتها ضاربٌ فى تلافيف الزمن، وفى كل لقاء تم على أرضها، كان العارفون من مفكريها وقادتها، يُشيرون، بافتخارٍ، إلى أن كلًا من الصين ومصر، بلدان يمتلكان عمقًا حضاريًا عمره خمسة آلاف عام!.



ويمكن أن تذهب إلى الصين للفرجة، والتسلية، والتسرية عن النفس، إذا كنت تملك المال والوقت والصحة لكى تفعل ذلك، وستجد بها الكثير مما يُنفق فيه المال والوقت، من سحرٍ، وجمالٍ، وغرابةٍ، وغواية!.

كما يُمكن أن تذهب إليها مُعجبًا بإنتاجها المتفوق فى جميع النواحى، وطالبًا بضائعها، التى بزّت بضائع الغرب، وفاقت صنائع الشرق، فستجد فيها ضالتك من كل نوعٍ ومظهر، وعلى كل شاكلةٍ وجوهر!. فالصين «مصنع العالم»، الذى يدور دولابه العملاق دورته الجبّارة، ويتحرك حركته المذهلة، فلا يتوقف أبدًا، وهو البلد الذى يُنتج ثلث إنتاج العالم، ويُزاحم «الإمبراطورية الأمريكية» على مقعد الصدارة فى مقدمة الصفوف، وما هى إلا بضع سنوات، حتى يتجاوز إنتاجه نصف إنتاج المعمورة قاطبةً، وساعتها سيكون لكل مقامٍ مقال !.

أما أنا، فقد ذهبت إلى الصين تحدونى الرغبة فى المعرفة، ويحركنى البحث بتواضعٍ، عن جوهر التجربة، ومحاولة الفهم، والسعى للإدراك!. وفى كل الحوارات التى دارت مع القادة الحزبيين، ومع رجال الفكر والسياسة، والمسئولين التنفيذيين والاقتصاديين، بل حتى مع المواطنين العاديين، فى الشارع، وفى القرى، وفى المصانع، والمزارع الجماعية، والأكاديميات، وخلال زيارتنا المتاحف، والمعارض، والمسارح، وبيوت الفن والثقافة، كان يشغلنى دائمًا، محاولة البحث عن إجابة لذلك السؤال «اللعين»، الذى شغل بال الكُتّاب والمفكرين، من المصريين والعرب، ولم يكفوا أبدًا عن طرحه، بمختلف الصيغ والتلاوين: لماذا تقدموا وتخلفنا، ولماذا نهضوا وتعثّرنا؟!.

ولنتذكر فى هذا السياق، أن عمر «المعجزة الصينية»، أو «الطفرة الكونية»، التى أحدثها الصينيون المعاصرون على أرضهم، لم يتعد الأربعين عامًا، «1978 ـ 2017»، أى منذ أطلق الرئيس الصينى الأسبق، «دنج هسياو بنج» سياسة «الإصلاح والانفتاح»، فى وقت مواكب لإطلاق سياسة «الانفتاح الاقتصادى» و«التكييف الهيكلى»، فى بلادنا، وكانت ظروف مصر، من الناحية الموضوعية، ليست أسوأ من ظروف الصين، إن لم تكن أفضل، ولا مشاكلها أكبر من مشاكل الصين، التى تضم الآن ما يفوق المليار وثلاثمائة مليون نسمة. والسؤال المُلِّح هنا: حسنا.. إذا كان الأمر على هذه الشاكلة، فما الذى جعل الصين تقفز فى هذه الحقبة الزمنية الطفيفة، كل هذه القفزات العِظام، وتنجح كل هذا النجاح الباهر فى مسيرتها، التى ترفعها إلى موضع قيادة العالم، بينما مازلنا نحن نرزح تحت وطأة التخلف، ونلهث لكى لا تموت شعوبنا جوعًا، ونُريق ماء وجهنا من ذُل السؤال؟!.

أسئلة محزنةٍ وتشريحٌ مؤلم. لكن متى كانت الحقيقة لا توجع، وإدراك كنه الأمر لا يُثير الأسى والشجون ؟!.

فإذا أردنا أن نجد إجابة لأسئلة اللحظة الموجعة، والتى من أجلها حملنا أمتعتنا إلى «الرحلة الصينية»، فعلينا إذن أن نتحلى بالصدق، وأن نواجه الذات بنقائصها، وأن نعرف أن للتقدم قوانين صارمة، يستحيل إنجازه إلا باحترامها.