رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جواز سفرنا إلى المستقبل


أنشئ المجمع العلمى فى القاهرة 20 أغسطس 1798 بمرسوم من نابليون بونابرت وكان مقر المجمع فى دار أحد بكوات المماليك بالقاهرة وأهدافه العمل على التقدم العلمى ونشر المعرفة والعلم، ولم تتوقف بعد ذلك الجهود المصرية على هذا الطريق، وشغلت قضية نشر العلم المفكرين بل الأدباء، وفى عام 1930 دعا سلامة موسى لإيجاد حركة علمية شعبية فى مصر وإنشاء مجمع مصرى للثقافة العلمية يضم المهتمين بالعلوم.



وفى عام 1959 نشر نجيب محفوظ روايته «أولاد حارتنا»، وكتب فيها على لسان إحدى شخصياتها: «إن العلم قادر على كل شىء.. وقد يتمكن يوما من تشييد المبانى، وتوفير الرزق لأولاد حارتنا كافة». وبعد انقضاء أكثر من مئتى عام على إنشاء المجمع العلمى نجد أن الوعى العام، الجماهيرى، واقع بأكمله فى قبضة الجهل والشعوذة والخرافات التى تفاجئنا وتصدمنا ممزقة كل صور التقدم الوردية.

لدى ذلك الوعى الجماهيرى هناك «جن» شرير يسكن أحد البيوت هو الذى تسبب فى إحراق ثمانية منازل فى أسيوط فى أبريل الحالى. ويروى أحد المصابين أنه حاول الاستعانة بالمشايخ لإخراج الجن لكنهم طلبوا أموالا طائلة، وبعضهم رفض، وتدخل البعض منهم وفشل فلاذ بالهرب!، إلا أن هناك نوعا آخر من الجن، مهذبا ومحترما ويراعى ظروف الناس!، يدلنا على ذلك ما نشرته جريدة اليوم السابع فى 9 فبراير العام الماضى عن فتاة ادعت أن الجن عاشرها، لكن المعالجة الروحانية منى النمر طمأنت الفتاة وأهلها والجريدة أن: «الجن قد يعاشر الفتاة لكنه لا يؤثر على غشاء بكارتها»!.

إنه إذن جن شريف عفيف ينال حظه من المتعة من دون أن يؤذى أحدا!، فى الوقت ذاته تغمرنا من كل ناحية إعلانات المشعوذين على مدار اليوم فى القنوات التليفزيونية. محتالون يدعون القدرة على إزالة السحر بأنواعه، وجلب الحبيب، وفك النحس، وتحرير السجين، فضلا عن علاج الأمراض المستعصية مع إعطاء الأولوية للحالات الجنسية، ويتضمن معظم تلك الإعلانات الدعاية لزيوت ومراهم وأعشاب وغير ذلك من منتجات بدون ترخيص من وزارة الصحة ولا علاقة لها بالطب. فى معظم الحالات يكون العلاج بالتليفون مقابل كروت شحن موبايلات!!، ويصف أولئك الدجالون أنفسهم بصفات باهرة مثل «قاهر الجن»، و«صاحب الكرامات»، أما الشيخة زينب فإنها «مشهود لها بالمصداقية».

وبلغت الوقاحة بأحدهم درجة الإعلان عن أنه «وضع حدا نهائيا لمرض السرطان»!، ومعظم القنوات التى تحترف الترويج لهذا الدجل تبث إرسالها من خارج مصر من القمر الفرنسى. وفى يناير من هذا العام أعلن عاطف يعقوب رئيس جهاز حماية المستهلك عن إحالة قناة «تايم كوميدى» وقناة «تايم دراما» إلى النيابة العامة على ذمة 4 قضايا لارتكابهما جريمة الإعلان المضلل. لكن الدجل يتمادى ويتفشى مستغلا اتساع نطاق الجهل وصولا إلى الإعلان عن «تخليص الإنسان من الإلحاد بـ 25 جنيه»!.

أى أنهم بلغوا درجة بيع صكوك الإيمان بأسعار متهاودة!، ولاشك أن السبب الرئيسى فى رواج تلك الشعوذة هو الأمية التى يقدر جهاز الإحصاء المركزى أنها تطال نسبة 7. 29% من سكان مصر أى ثلث الشعب!، ناهيك عن الأمية الثقافية. هذا بينما لا تقدم الحكومة مشروعا لمحو غول الأمية، ولا تصدر مجلات علمية ذات شأن، ولا تدعم البحث العلمى، وتتجاهل قدرات وطاقة مئة وعشرين ألف باحث وعالم مصرى فى مختلف المجالات، أما ميزانية البحث العلمى فى مصر فإنها لا تتجاوز نسبة واحد بالمئة من الناتج القومى، بينما تبلغ هذه الميزانية فى إسرائيل إلى أربعة ونصفا فى المئة.

وتنفق إسرائيل على العلم مقدار ما تنفقه الدول العربية مجتمعة!، الأسوأ من كل ذلك أن الحكومة لا تفكر فى إطلاق قناة تليفزيونية مختصة فى العلوم، تبسطها وتقدمها للناس فتزيح جزءا من الظلام الفكرى الذى يخيم على العقول والأرواح. ويظل أى حديث عن «التنوير» محض أمنيات لا تأثير له فى الواقع من دون محو الأمية، ومن دون إنشاء قنوات تليفزيونية علمية، وإصدار مجلات علمية، بل إجبار الصحف إن لزم الأمر على إفساح مجال للأبواب العلمية الصغيرة. الناس أحوج ما يكونون إلى النور، والنور بأيدينا، ليس بعيدا عنا، يلوح ويختفى. منذ أيام قليلة رأيت هذا النور حين قرأت عن تسعة طلاب بكلية الهندسة بجامعة بنها، ومقر الكلية فى شبرا، قاموا بتصميم سيارة تسير بالكهرباء وشاركوا بها بنجاح فى مسابقات دولية.

أما طلاب هندسة جامعة القاهرة فقد تمكنوا العام الماضى من تصميم سيارة أخرى «هجين» تسير بالكهرباء والغاز. لاحقا شاهدت برنامجا تليفزيونيا استضاف بعض أولئك الطلاب. كانوا يتحدثون وفى عيونهم بريق الإلهام والأمل العظيمين الذى تلمحه فى عيون الشعراء الحالمين. ألم يقل ألبرت أينشتين مؤسس نظرية النسبية إن «عنصر الشعر قائم فى كل تفكير علمى.. وإن العلم والفن يقطعان نفس المجرى الفكرى»؟!. أظن أنه الحلم نفسه لدى العلماء والفنانين، الحلم بواقع آخر أقرب ما يكون إلى السحر، مختلفا وجميلا.

عندما يسألون شخصا من أنت؟ فإنه يظهر بطاقة أو جواز سفر، لكن حينما يسألون شعباً من أنت؟ فإن وثائقه التى يبرزها هى علماؤه وكتابه وشعراؤه. ونحن نريد لعلمائنا وكتابنا أن يكونوا جواز سفرنا إلى المستقبل، بعيدا عن حكايات الجن العفيف والجن الشرير وفك السحر وكسر عين العزول بحبة البركة.