رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعاد حسني.. «حرام»


النسمات العليلة فى شريعتهم مكروهة كراهية الحياة، ابتغاءً ومرضاة للموت.. الموت المنشود الذى يغيظ «العدا»، والعدا «نحن» الراغبين الطامعين فى تلك النسمات.. وشمها حرام أكيد. فشم النسيم يعطى براحًا للروح وبهجة للنفس ومفعوله أكيد يسير بنا لدروب المسرة، فكيف لا يكون حرامًا، أتبغون أيها الغاوون بهجة الدنيا وعرضها الزائف وتنسون الآخرة وعذاب القبر والأقرع.



تلك يا أعزائى مجرد مقدمة يستهل بها أدعياء الشرع الجديد حديثهم مع أى نفس ذاقت الجمال وسولت لها نفسها أن تخرج للنور وتسير فيه راضية مرضية، فهؤلاء أشباه كائنات أو بشر أقرب للمسوخ، أنوفهم اعتادت رائحة الدم والرفات، ويرون النسيم و«شمه» بدعة وضلالة مصيرها السعير.

الاستنشاق حرام.. النشوق حرام.. التنفس حرام. النسيم حرام و«عم نسيم» كافر، وكل ما هو عليل كذلك حرام.. الحياة كلها حرام ولعب ولهو.. الأشهر حرام.. الربيع حرام.. وسعاد حسنى «حرام الحرام».. فما هو الحلال إذن وأين يكون؟.

الحلال هو التكفير والهجرة والتهجير القسرى والاتشاح بالسواد وكراهية الحياة وانتظار الموت وتمنيه.. بل السعى له والسير بالآخرين لدروبه، سواد العقول والقلوب وظلمة الأنفس هى «أحل الحلال».. الذبح وقطع الرقاب ولون الدماء أجمل فى أعينهم من لون الورود فى بلادى.

يرفضون الأحمر على الشفاه والوجنتين، ويريدونه دمًا يدمى الوجوه وتتلطخ به الأيدى ويسيل على الطرقات، كل ما هو جميل فى الدنيا يكرهونه، فأعينهم لا تعشق أى جميل، وما هو بديع فى نظرهم قبيح، أما القبح الحقيقى فله رونق وجمال أخاذ يأسرهم ويطوقون إليه بشغف للموت يضاهى شغف الحياة.

أجدادنا ليسوا أجدادًا لهم وحتمًا كذلك أمهاتنا وآباؤنا، يأنفون من رمسيس وأحمس ومينا ويزدرونهم ويفجرونهم، ولا يعيرون الفلاح الفصيح -الذى صار يصيح- أى التفات. لا يعرفون «الكاتب المصرى»، فثقافتهم قائمة على فعل أمر يقول «اسمع وأطع» لا «اقرأ».

حضارتنا بالنسبة إليهم ما هى إلا أصنام وحجارة صنعت لتكسر.. لا هم ملوك ولا هم أجداد لهم. ملوكهم هم ملوك الطوائف وأدعياء الدم وأمراؤه: جنكيز خان وهولاكو أقرب لنسقهم القيمى من إخناتون ورمسيس. حضارتنا لا تمثلهم وحاضرنا ليس كحاضرهم، والمستقبل الوحيد الذى يتوقون إليه ويتطلعون له هو يوم الحشر.

زرعنا ليس حرفة يعرفونها.. حرفتهم إطلاق البشر وانتظار عودتهم برءوس القتلى أو سماع نبأ الأشلاء التى تفجرت أجسادها.

قطننا لم يجمعوه يومًا.. فالأبيض لا يليق بهم. أحبوا الربح السريع واحترفوا التجارة فى كل شىء: الدماء، البشر، الأعضاء، العقول، الشباب، النساء، الأطفال.. وغيرها من البضائع.. كلها سلع يتاجرون فيها، وهى عرضة للبيع والشراء فى أسواق النخاسة وصحارى المعارك.

أما الربيع بألوانه وزهوره وأغانيه وأطعمته المملحة فلا تستهويهم، يعجبهم فى الربيع رياح التصحر الخماسينية؛ ليذر الرمل فى العيون فلا نرى الجميل من القبيح، ولكن ما إن تنقشع الرؤية ويظهر القبيح قبيحًا والجميل جميلا.. يضحك لنا الربيع بوجهه الصبوح، ويهل النور ويسطع على بيوت الجميع بعد أن عشنا فى جور وبور وجفاف وموت يحدق بنا.

دعكم من هؤلاء، فالمجد للحياة ومن يعانقها، واللعنة على الموت والعدم.. فالكون حى يحب الحياة ويحتقر الموت مهما علا شأنه وسط الأحياء وكبر.

افتحوا أذرعكم للربيع واحتفوا به.. رحبوا به، أدخلوه زائرًا معززًا لبيوتكم وكونوا خير مضيف له، وأغلقوا نوافذكم أمام الرياح العاتية المحملة باللعنات والأتربة ورفات القتلى وروائح الموت والعدم الكريهة.

اتركوا الزهور تنمو والبراعم تتفتح، أحبوا الأخضر والوردى وكل ما هو مشرق ومزدهر، وازهدوا فى الألوان التى لا يمكنكم تمييزها أو معرفة من خلطها ومسخها. البارئ فقط هو من رسم لنا الأشكال وصنع لنا الألوان وعلمنا الأسماء كلها، ولا آلهة غيره نعبدها أو نخافها.. فالبقرة الصفراء لم تعد تسر الناظرين ولحومها مسمومة لا تؤكل.

إن البقر تشابه علينا يا حضرات، حتى ظن البعض أن البقر بشر.. وقدّسه.