رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن حيوان اللؤلؤ الذي يبكي قسوة البشر


ونحن نشعر بالأسى، ونحزن من مواقف أصدقاء أو معارف أو زملاء عمل وأقارب، ونقول ما كان يصح أن يفعلوا كذا، أو إننا لا نستحق أن تكون تلك المعاملة جزاء ما قدمنا من محبة وحُسن معاشرة، يحدث ذلك كثيرًا وما إن نجلس إلى أشخاص غيرهم ونتحدث عن الزمن والأيام وما تفعله بالبشر حتى ينتابنا ألم وشجن وربما حسرة، لكننا ننسى أن هؤلاء الجدد الذين نحكى لهم يمتلكون قصصًا مشابهة عن «الندالة، والغدر، وهوان العيش والملح»، ونتفق على أن الذين نشعر تجاههم بكل هذه الحسرة واللى صعبان علينا منهم، لا يشعرون بنا من أساسه، وإلا ما كانوا أقدموا على إيذاء مشاعرنا بتصرف أهوج أو كلمة عابرة أو غياب متواصل وعدم اهتمام بأمورنا ومشكلاتنا.


تلك هى الحياة وهذا هو الإنسان الذى يظل محتارًا تائهًا بليدًا فى تفسير أفعال أخيه «الإنسان» وردود فعله غير المفهومة، ولا تظن نفسك أفضل من المأسوف عليهم وعلى أيامهم فتلك وجهة نظرك أنت، أما هم فيتصعبون أيضًا ويمصمصون شفاههم حسرةً على ما قدموا إليك من أفضال لم تحفظها!، لذا وتوفيرًا لما تبقى لديك من قدرة على مواصلة الحياة عليك أن تلوذ بالصمت التام إن كنت مجروحًا متألمًا شاكيًا من الأهل والخلان والجيران، اتخذ لنفسك ركنًا بعيدًا ولديك كنوز من أغانى الهجر والغدر والطعن فى الظهر يمكنك أن تفش غليلك وتشهق بالبكاء وتُنهى كل هذه القصة المؤلمة، فلن يتغير الوضع بعذاب روحك أو شحتفة قلبك، والذين اعتادوا على إهمالك أو بيعك على أول ناصية لن ينتبهوا إلى عويلك وأنت تراهم يتساقطون منك واحدًا وراء الآخر تاركين لك شعورًا قاتلًا بالوحدة.

اختلت الموازين، وأصبحت كل الأشياء خاضعة لمنطق «المصلحة» وأنت الوحيد الذى لا تدرى، ما كان بينك وبينهم كان محكومًا بقوانين تجهل بنودها، كل شىء تغير يا صديقى، حتى هؤلاء الصغار الذين رأيت طفولتهم وأمسكت بها بين أصابعك تشوهت مشاعرهم وتبدلت ملامحهم، أعرف عشرات الآباء والأمهات يضربون كفًا بآخر كلما تذكروا كيف سهروا الليالى وجمعوا قرشًا فوق قرش لتربية وتعليم هؤلاء الأولاد «الشحُطة» الذين لا يسألون عنهم اليوم، إنه الإنسان، الغامض الذى يتوحش من دون أن يدرى، تنمو داخله طحالب خضراء لزجة كتلك التى تنبت على بلاّعات المجارى فتشيخ روحه وينسى كل الابتسامات القديمة، تأمل قليلًا فى أصل «الإنسان» كى تستريح، تأمل كيف يتجبر ويتلون ويتبدل لتعرف أنك أمام أصعب كائنات الأرض، تأمل كيف يتربى على كراهية الكنيسة فيقتل كل من يقترب منها، داخ العلماء وأساتذة الفلسفة وعلم النفس منذ قرون بعيدة السبع دوخات بحثًا عن «أسراره» ومكونات عقله وعدد الخلايا التى تضخ الكراهية وتزرع الأحقاد وتجعل هذا الكائن يتحول إلى ثور هائج ووحش قاتل وابن عاق وأب مغتصب وأم تشوى لحم ابنها أو ابنتها بالنار، داخوا وفشلوا، وتركونا أمام سراديب مظلمة تتربى داخلها عناكب وخفافيش وأجنحة وطاويط تضرب رؤوسنا وتؤذى قلوبنا.

إنه الإنسان يا صديقى الذى غرس الحصى الصغيرة فى بطن حيوان «اللؤلؤ» الرقيق، كى يبكى ويتألم ويفرز مادة لامعة هى دموعه فى الحقيقة التى يظل يذرفها كى يفصل جسده عن موضع الحصى «الألم»، ويضحك الإنسان وهو يحصد اللؤلؤ ويصنع ثروة هائلة من الدموع!، فلا تحزن يا صديقى ولا تبتئس، وتمسك بما تبقى لديك من «محبة»، وعليك أن تتذكر أن هذا الكائن المسمى «إنسان» هو الذى مازال يقتل حتى اليوم أطفالًا ورجالًا ونساءً، لا لشىء إلا لأنه يراهم على باطل وفى ضلال، ويرى دينه ومعتقداته فقط هى التى على صواب وتستحق الاعتناق والقتل، لم يقرأ ولم يتعلم كيف فضله الله على جميع مخلوقاته بقلب هو مصدر الرحمة رغم أنه غارق فى الدماء، ورأس مظلم هو مصدر النور والحضارة لأنه يحمل المخ الذى لا يزيد على (1424) جرامًا هو أعظم ما خلق الله، تذكر كل ذلك إن كان مفيدًا وتعلم كيف تنسى.