رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأعمى يقود بصيرًا


هكذا فعل «الشيخ حسنى» عندما جرجر وراءه «الشيخ عبيد» لقاع النيل مرةً وكادا يغرقان معًا ومرة أخرى قاده لمشاهدة النجمة الجميلة الشقراء فى السينما نهارًا

كان الأعمى يقود الضرير ويوحى له بأنه من المبصرين

بل كان يتعالى عليه أحيانًا ويعايره بنعمة الإبصار التى يفتقدها هذا الضرير المكتفى بقدره.. يحمد الله عليه فى السراء والضراء سرًا وعلانيًة.



هكذا كنا.. لقد كنا هكذا.. نعم نحن.. شأننا شأن الضرير الراضى القانع المحتسب

فجاءنا الأعمى مدعيًا البصيرة وجعل من نفسه قائدًا لنا.. يرى ما لا نراه

سار بنا فى حقيقة الأمر.. لم نسر معه

جرنا وراءه ومشينا معه موقنين ببصيرته التى لا نملكها ولا سبيل لنا غيرها وغيره

لنفاجأ كما فوجئ الشيخ «عبيد» فى منتصف فيلم «الكيت كات» بأن البصير الذى عايرنا طويلًا بعللنا.. ما هو إلا عليل ضرير ظن أن باستطاعته أن يقود جمعًا غفيرًا من الناس بوصفهم قطيعًا من العميان غير المبصرين.

فالأعمى المريض بالضرورة - كاذبًا محتالًا- لا يدرك حقيقة الفارق بين البصر والبصيرة

بصرك قد يخدعك

فتظن ويهيأ لك أن السراب ماء

و أن المحتال وجيه

وأن الكسلان عميق

وذا الرهاب الاجتماعى عفيف مترفع متواضع خجول

والانسحابى الانهزامى عازف عن الظهور لأنه

غير راغب فى أى غنائم ولا مآرب له

الفشل نحسبه نزاهة والأفول قد نراه زهدًا وتعففًا

هكذا يخدعنا البصر

وترى العين ما يكفر به الفؤاد

وتعافه النفس

وتكشفه الفطرة فندرك الحقائق عندما تتضح لنا كنور الشمس الساطع الذى يكشف عورات المدلس وتتفتق البصيرة فتنير الأعين التى حجبت الغشاوة عنها الرؤية ويتضح كل شيء جليًا صادمًا يهزك لترى ما كنت لا تراه من حقائق

وتدرك ما لم تكن تدركه أو لا تريد أن تدركه من أكاذيب كنت تعيشها كل يوم وكل لحظة ولم يكن لديك المتسع من الوقت لتعلم فن الإدراك لانغمار الكذب من حولك من كل ناحية وحصاره لك ولرؤيتك الثاقبة التى تستفيق عليها فى نهاية المطاف وتضحك ضحكة صافية طويلة تأتى من عميق قلبك كضحكة الشيخ عبيد عندما قال له من حوله إن الشيخ حسنى « ضرير أعمى كان يقوده كل تلك الصباحات واهمًا إياه أنه المبصر.

ويستفيق أصحاب البصائر فى نهاية الرحلة على واقع وحقيقة مفادها « لا تدع أبدًا الأعمى يقود بصيرًا»

احترسوا إذن يا سيدات

ويا سادة..

فالأعمى دومًا هو من يقود أصحاب البصائر

وأصحاب البصائر فى بلادنا كثر

لكن القادة أكثر

أناس جعلوا من أنفسهم قادة لنا وهم يعجزون عن قيادة سيارة أو حتى مركب شراعى ما تحركه هى النسمات التى يجىء بها الهواء وتمر على الأشرع البيضاء فتتحرك.. أياديهم تعجز عن التجديف أو فعل أى شىء مجد أو نافع.. هم فقط يفعلون ويقترفون الأخطاء ويمارسون الآثام بمنتهى الأريحية والصدق والتفانى بل يكونون نبلاء فى اقترافهم لآثامهم بصدق منقطع النظير وإصرار وترصد ودأب يحسدون عليه.

هم قادة أشبه بمحركى العرائس.. يمسكون بخيوط اللعبة وكأن الحياة والبشر وحيواتهم مجرد عرائس ماريونت تتمايل عندما يقرر لها ويحركها قائدها ذات اليمين وذات اليسار ولا قرار للمفعول به فى حركته.

القرار قرار الفاعل الذى جعل من نفسه قائدًا لنا نحن العرائس ولا حول لنا ولا قوة تذكر.. لا قرار ولا رأى لنا.. أصفار نحن يظنوننا فى المعادلة.. معادلة المحرك القائد الذى لا يقوى على فعل شىء حقيقى سوى التحكم فى حركة الغير وتوجيههم كالقطيع، فهم فى رأيه مجرد جملة اعتراضية فى معادلة الحياة التى أصبحت مسرحًا كبيرًا للعرائس تتحرك وتتمايل، وفقًا لمشيئة محركها -لا صانعها- فهم صنيعة الخالق وصنيعة أنفسهم.

عقولهم وبصائرهم وفطرتهم التى خلقت معهم وما راكمته لهم الحياة هى فقط ما يصلح لقيادتهم وتوجيههم فى الاتجاه الصحيح.

أنتم القادة الحقيقيون يا سادة يا كرام.. أنتم قادة أنفسكم.. آمنوا بها وآمنوا بغيركم من أشباهكم ومن على شاكلتكم وآمنوا بالخير فيكم وفيهم ولا تأمنوا للقادة من معادن ليست كمعدنكم، فهم ليسوا بقادة بل عبيد وأسرى لخيالاتهم وهلاوسهم وضلالاتهم يتيهون فيها وبها فلا تتيهوا معهم ولا تتيهوا بهم.

كونوا مع أنفسكم وصاحبوا أصحاب الأفئدة والبصائر ودعوها تقودكم للخير ولما هو صواب وحق.. فالفؤاد أو البصيرة لا تكذب ولا تخفى عنها الخفايا.. هى دليلكم أومرشدكم دومًا ولا شىء سواها يعول عليه.