رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحق فى «العَلام» «1»


خاض المصريون معركة عنيفة، ضد قوى الاستبداد الاجتماعى، والسيطرة السياسية، منذ أطلق «العميد»، «طه حسين»، صيحته الخالدة: «التعليم كالماء والهواء»، وحتى أصبحت هذه القضية أمرًا واقعًا على يد «جمال عبدالناصر»، وبفضل من أطلق هذه الصيحة ومن حوَّلها من مجرد أمنية إلى حقيقة، نال شرف العلم، الذى تعلو قيمته على أى منزلة، عشرات الملايين من أبناء الشعب المصرى، من الفقراء ومحدودى الدخل، وتغيرت الخريطة الديموغرافية للبلاد، وتنورت أرجاء الوطن بعدما عاشت القرون تلو القرون فى تخلف وظلمات!.

 ثم دارت دورة الزمن، واستيقظنا على أيام لم يعد فيها التعليم، أو«العلام»، كما يطلق عليه البسطاء، حقًا كالماء والهواء، وإنما صار سلعة تباع وتُشترى فى أسواق كأسواق النخاسة، واحتكارًا يمارسه من يملك بفظاظة واستفزاز، فى ظل تقصير الدولة، والحكومة، بأجهزتهما التى تُكلِّفُ البلد المليارات كل عام، عن الوفاء بأعباء وظيفتهم فى إقرار هذا الحق!، ومتابعة تنفيذه بطرق التوجيه والمراقبة، التى حددتها القوانين.

والمتابع لأحوال التعليم فى بلادنا، والتى لا تسر إلا العدو، ويرى تَخًبُّطه بين تعليم عام وخاص، (وفى الخاص بين تعليم للقادرين الميسورين، وآخر لأبناء «كريمة المجتمع»)، وبين تعليم عادى وفنى، علمى وأدبى، مصرى وأجنبى، دينى ومدنى، ... إلخ، لا يملك إلا أن يضرب كفًا بكف، من هذه الفوضى الشاملة، التى تضرب هذا «اللا سيستم» البائس، العشوائى، برمّته !.

وقد زاد وغطّى على هذه الأوضاع الكارثية، التى انحطت بالتعليم فى بلادنا إلى الدرك الأسفل، المغالاة البشعة فى تكاليف وشروط المدارس الخاصة كافة، وبالذات المدارس التى يعتبرونها مدارس «أبناء الذوات» أو «الإيليت» من علية القوم، وقد دفع هذا الوضع طُلاّب الجامعة الأمريكية إلى التظاهر تحت شعار «آباؤنا ليسوا لصوصاً»، وكاتبًا مرموقًا كالأستاذ «صلاح منتصر»، إلى التحذير من ظاهرة الأرقام الخرافية لرسوم التعليم فى المدارس الخاصة، والتى تبدأ من 75 ألف جنيه، وترتفع إلى 125 ألفاً، للسنة الدراسية الواحدة، فى مرحلة الحضانة، متسائلًا فى استنكار: كم سيدفع هذا الأب (المسكين)، لهذا الطفل، حتى يكبر ويجتاز سنوات التعليم المختلفة، من الحضانة إلى الابتدائى إلى الثانوى إلى الجامعة، ...، وكم مليونًا سينفقها خصوصًا بعد سبّوبة «تعويم الجنيه»، وارتفاع سعر الدولار الذى أصبح شمّاعة تعلق عليها كل الأطماع ؟!»، (الأهرام، 10 يناير).

والأخطر أن هذه المدارس، فى بحثها عن التمايز الشكلى الزائف، تمارس أقصى درجات الطبقية والتقسيم الاجتماعى، لابين طبقات المجتمع كافة وحسب، وإنما بين الشرائح العليا من المواطنين، الذين يسعون إلى كفالة مستوى معقول من التعليم لأبنائهم، فبحسب تحقيق صحفى عن هذه الظاهرة الخطرة، نشرته جريدة «الأخبار» منذ أيام، (أول فبراير)، فإن أغلب هذه النوعية من المدارس التى تحمل مسميات وأوصافًا أجنبية، تمارس سرقةً وابتزازًا مفضوحًا، وتهدم مقومات المجتمع المصرى الأساسية، وتهدد ركائزه الثقافية والتاريخية، وتمارس تمييزًا طبقيًا مرفوضاً، ضد جموع المواطنين المصريين، حين تفرض رسومًا فلكية للقبول، وتشترط على الأبوين والأولاد الصغار، وبعضهم فى الثالثة أو الرابعة من عمره، فى اختبارات مُهينة، التعبير عن أنفسهم بلغات أخرى غير لغتهم الأم: العربية، بل والأسوأ، إن لم يكن الأحقر، أن تُجبر الآباء الراغبين فى إلحاق أبنائهم بأعتابها المقدسة، وهم من الشرائح الغنيّة فى المجتمع أصلاً، على التماس الرضا السامى لمديرى هذه المدارس، باستئجار سيارات فارهة حديثة، من نوع «لامبورجينى»!، وإثبات الاشتراك فى النوادى الباهظة الكلفة، والنزول فى الفنادق والمنتجعات الفخمة، وارتداء الملابس ذات الماركات العالمية والأثمان الباهظة!...(وللحديث بقيّة).