رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عنوان الحقيقة


مع صدور حكم محكمة القضاء الإدارى بتأكيد رفض طعن الحكومة على قرار إبطال مفعول اتفاقية ترسيم الحدود بين المملكة السعودية والدولة المصرية، الموقَّعة فى أبريل الماضى، واعتباره هو و«العدم سواء»، يصبح من تحصيل الحاصل الجدل حول انتماء جزيرتى «تيران» و«صنافير» لمصر، وخضوعهما للسيادة الوطنية، وهو ما يأتى مصداقًا لنص ما ورد فى المادة الأولى من الدستور: «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا يُنزل عن شىء منها».



ولعل فيما حدث ما يُمَكِّنُ من استخلاص عدة دروس مهمة منه، إذ لأول مرة تُصر حكومة دولة على أن أرضًا تديرها وتبسط عليها سيادتها، ولم يسبق الجدل بشأن وضعيتها وشرعيتها، على الأقل لما يزيد على ستة عقود، لا تنتمى لها، وليست قسمًا من ترابها الوطنى، فيما يُصِّرُ مجموعة من المواطنين العاديين على عكس هذه الرؤية، ويقاومون هذا الاتجاه «الرسمى» بما يملك من إمكانات الدولة المادية، والبشرية، والوثائقية، التى تصب جميعها فى تأييد موقفه، ويستطيع الاتجاه الشعبى أن يفوز، بوحدة إرادته، وتماسك صفوفه، وروح الإصرار على الانتصار لقضيته!.

وفى المقابل تعاملت أجهزة الحكومة القانونية مع هذا الملف بالكثير من التعالى والبيروقراطية و«العنطظة»، حتى لا نقول الإهمال والتراخى واللامبالاة، وكأن الحكم لصالحها مضمون مائة بالمائة، وفى جيبها، وتأخرت فى تقديم ما طلبته المحكمة من مستندات تؤكد رؤية الحكومة، ولم تبذل جهدًا حقيقيًا لإقناع هيئة المحكمة بصحّة موقفها وصدق ادعاءاتها، فى الوقت الذى اجتهد فيه الطرف الشعبى فى حشد القرائن والأسانيد التى تدعم رؤاه، وتقنع المحكمة، وحيث تداعت الجهود، من داخل مصر وخارجها، لتقديم الخرائط والدلائل المؤيدة لرأيه.

معنى هذا، أولًا: أن ما تعلمناه فى الصغر، وكانوا يدونونه على دفاترنا المدرسية، صحيح كل الصحة: «من جدَّ وجد» و«من زرع حصد»، وهو أمر مهم أن نستعيد مضمونه، ونؤمن بجدواه، مع فقدان الثقة فى قيمة الجد والعمل، وشيوع روح الكسل والاتكالية، وانتشار مظاهر الإحباط من الحاضر، واليأس من المستقبل، فى الفترة الأخيرة!.

ومعناه ثانيًا: أن فى مصر، لا تزال جذوة الوطنية وحس الانتماء والإخلاص للتراب الوطنى، مُتقدة، وهو أمر مهم أيضًا، يُعوّلُ عليه فى أى خطة حقيقية للبناء والتعمير بالمعنى الشامل، الذى يحشد إرادة الأمة من أجل النهوض، ويضع نصب أعينها أهدافًا عالية، تطمح لتحقيقها.

ومعناه ثالثًا: أن القضاء المصرى فى عمومه بخير، رغم الشوائب التى حامت حول سمعة بعض المنتسبين إلى صفوفه، على نحو ما حدث مؤخرًا، من ملابسات أدت إلى انتحار قاضٍ متهم بالرشوة والتربُّح، وهو أمرٌ يمنح الثقة فى المستقبل، وقد كتب «أندريه مارلو» وزير ثقافة فرنسا عن عهد الجنرال «شارل ديجول»، فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، يقول إنه أفاض فى الحديث عن الدمار المادى الذى لحق بالبلاد بفعل المعارك، فسأله «الجنرال»: وما حال القضاء الفرنسى، فلما أفاده «مارلو» أنه بخير، رد عليه «ديجول» إذًا فرنسا بخير!!.

فكل شىء يمكن تعويضه ما دام القضاء نزيهًٌا، والثقة بعدالته غير منقوصة.

لكن الأمر يتطلب أيضًا من الحكومة حكمة التصرف، وأن تتجنب اللدد فى الخصومة، فبعض ما قيل من مشايعيها يشى بأنها لن تقبل بهذا الحكم، ولن تعترف بنتائجه أو تسعى للبناء عليه، وأنها تستعد لمعركة جديدة، شرسة ومهلكة، ستكون ساحتها القادمة البرلمان، الذى أحالت إليه أمر القضية للبت فى وضعيتها، فى الوقت الضائع، وقبل حكم المحكمة بأيام!.

حكم المحكمة هو «عنوان الحقيقة»، والقبول به ليس ضعفًا، وإنما دليل احترام لمبدأ الفصل بين السلطات.