رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قمر .. مريم البنا


تقدم إلينا «مريم البنا» روايتها «قمر» بعد مجموعتين قصصيتين، الأولى «تسمح كتفك من فضلك» الصادرة عام1998، والثانية «رائحة الوجه القديم» عام 2000. تعود بنا مريم البنا فى روايتها القصيرة «قمر» «نحو 75 صفحة من القطع المتوسط» إلى أحد ينابيع الأدب العريقة: العطف الإنسانى على الكائنات الأخرى...

... وتعرض فى روايتها أزمة سيدة تشفق على كلاب الشارع وتحاول بشتى الطرق إنقاذها من عبث الصبية والموت تحت عجلات السيارات ومن قسوة الحياة بلا مأوى. وتبذل كل جهدها لتنتزع للكلبة «قمر» سقفاً تحيا تحته مع جرائها الصغار. لكنها لا تصادف خلال ذلك سوى الجلافة وأحياناً السخرية أو غلظة القلب إلى أن يظهر راهب من وادى النطرون فيأخذ الكلاب معه لتقيم فى الدير وتحرسه. لكن وتنجح الكاتبة خلال ذلك فى أن تبعث فى نفوسنا العطف العميق على الكائنات الأضعف ليغدو عطفاً على كل ضعيف. تستلهم مريم البنا فى روايتها القصيرة تاريخ الشعور الإنسانى تجاه الآخرين، والذى تجسد فى الأدب لأول مرة فى القرن السادس ق. م. فى «خرافات أيسوب» وقصصه عن الحيوانات، ثم عاود الظهور بقوة فى «كليلة ودمنة» لابن المقفع أواخر القرن الثامن الميلادى، وعند إخوان الصفا الذين تأثروا بالمقفع فى عملهم «رسالة تداعى الحيوانات على الإنسان» التى استمعت فيها المحكمة لشكاوى الحيوان من البشر. وعندما ظهرت ألف ليلة وليلة باللغة العربية فى القاهرة لأول مرة فى القرن12، كان التعاطف مع الكائنات الأخرى قد خطا خطوة أخرى للأمام فأصبح الإنسان فيها يفهم لغة الطيور ويتكلمها ويحل رموزها. فى كل ذلك التاريخ الأدبى مضت البشرية فى إيقاظ الشعور تجاه الكائنات الأخرى. على هذا الوتر عزفت مريم البنا معزوفتها مشبعة بالمحبة والحنان على الكائنات الأضعف، وهى معزوفة بدأها الأدب المصرى مع قصة يحيى حقى «فلة ومشمش ولولو» عام 1926، ثم قصته «عنتر وجولييت» عام 1955. وفى ذلك المضمار سجل الشعر هو الآخر كلمته بخمس حكايات شعرية عن الكلبكتبها أمير الشعراء أحمد شوقى. أما فى الأدب العالمى فستظل رواية «مومو» 1852 للكاتب الروسى العملاق «إيفان تورجنيف» إحدى الروائع التى سطرت قسوة الإنسان التى تصل حد إجبار إنسان آخر على أن يغرق فى النهر أحب ما لديه: كلبته «مومو»، فيحملها فى قارب ويضع أنشوطة مربوطة بحجر حول عنقها، بينما تراقبه هى: «بثقة كبيرة ومن دون أى خوف وتهز ذيلها».أيضاً ثمة قصة قصيرة للكاتب العظيم أنطون تشيخوف باسم «كاشتانكا» كتبها عام 1887 عن كلبة صغيرة ضلت الطريق. تغترف مريم البنا من ذلك النبع الإنسانى العريق، فتكتب روايتها، لكن الكلاب عندها ليسوا رموزاً لطبقات كما فعل يحيى حقى فى «فلة ومشمش ولولو» وليسوا تعرية لواقع طبقى، بل هم أقرب إلى تعرية القلب حين يقسو ويصبح حجراً لا مبالياً. بذلك غردت مريم البنا فى روايتها الأولى خارج السرب الذى كثيراً ما يلهث وراء التجديد فى الشكل بأى ثمن، وأحيانا وراء الغرائبيات، وأحياناً خلف أوهام أنه يحطم التابو «المحطم فعلياً منذ نشأة الأدب». لا تطرق البنا الأبواب المفضية إلى الضوء والذيوع، لكنها تتجه إلى زقاق جانبى بعيد وتطرق فيه باباً ينفتح على ما يشغل قلبها وعقلها. تحية للكاتبة وللجرأة التى جعلتها تنظر إلى قلبها وحده أولاً وأخيراً، فتكتب «قمر».