رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فنجان قهوة مع سعادة وكيل الداخلية


هل بات داء النفاق ومغازلة الأعلى مكانة والتقرب إلى أصحاب المعالى والعزة والرفعة والجاه فى كل عصر سلوكاً فطرياً طبيعياً يتنفسه الناس فى بلادى شهيقاً وزفيراً على أرض المحروسة حتى نكاد نحتسبه ـ دون مبالغة ـ ضمن المركبات الجينية الجوهرية الساكنة فى تركيبة المواطن، وتم تعزيزها بالكثير من طرق وتقاليد غير تربوية نحرص على أن يكتسبها الطفل فى البيت والمدرسة والنادى من تزيد فى تلقين فلذات الأكباد طقوساً وآداباً غريبة على أنها لون من الالتزام بمبادئ احترام الكبار...

... فإذا بها تصل إلى حد التدريب على فنون النفاق والاسترضاء وتقديم «السبت» للحصول على «الأحد»كما يقول المثل العامى مدعمة بالخوف من الأكبر وما يملكه من سبل العقاب، وأن لكل شىء ثمناً يجب أن يُدفع حتى لو كان على حساب الكرامة واحترام الذات .. تحت عنوان « فنجان قهوة مع سعادة حسين فهمى رفعت بك وكيل وزارة الداخلية» كان لرئيس تحرير مجلة «مجلتى» حواراً مع وكيل وزارة الداخلية فى مجلته بعددها الصادر فى 15 يوليو 1939 وهى مجلة كُتب فى ترويستها التعريفية أنها مجلة لا تقبل المقالات إلا إذا كانت خاصة بالمجلة، وأنها لا تكافئ مادياً المقالات التى تنشرها بل يكتفى صاحبها بالفخر الأدبى!! ..

فى هذا الحوار مثال يُعد نموذجاً لتراثنا فى مجال آداب النفاق وفنون صياغة وزخرفة الكلمات عند إنشاء الجمل والعبارات والانسحاق والتلاشى أمام صاحب السلطان.. وليأذن لى قارئ هذه السطور عرض بعض الجمل التى بذل فيها الكاتب جهوداً عبقرية لتلوين الألفاظ وتنويع الأداء وجاذبية الاستعطاف وإعلاء نبرات الاسترحام وحفز روح الرضا والشمول بالعطف على كاتبه ..فىتقديمه للحوار وفى معرض وصفه لملامح سعادته يقول «رقيق البناء دقيق التقويم، فريد الطابع جذاب الطلة، يمتاز وجهه القسيم بذقن مستديرة يستشف منها الفنان الموفق لوناً أصيلاً من ألوان الجمال، ويقرأ فيها الناقد المتخصص معنى بيناً من معانى العبقرية .. إنه لوجه يظهر غير ما يبطن، فإنه يبدو لغير المنعم فيه الأريب، أنه وجه ساذج يصور نفساً لا تختلف كثيراً عن أنفس الساذجين، على حين أنه يبدو للبصير المحقق أنه وجه نابغة متعمق يصور نفساً لا تختلف فى شيء عن أنفس النابغين المتعمقين». وهكذا يرى الكاتب سعادة الوكيل، وعبر الطلة الأولى على ملامحه الكريمة صفات التفرد والجاذبية والجمال والعبقرية والبساطة مع النبوغ والتعمق.. وهنا يسأل القارئ نفسه وماذا بعد؟!.. أى حوار يمكن أن يكون مع نوع من البشر قرأنا فى ملامحه كل تلك السمات العبقرية من الوهلة الأولى.. فماذا يمكن أن يُقال عند الحديث عن أعماله وأفعاله وإنجازاته ومساهماته ودوره الوطنى والمجتمعى والمهنى وحياته وثقافته ومعاملاته مع الناس ... إلخ ؟! ..

وبرغم مرور أكثر من 75 عاماً على نشر هذا الحوار، مازال هناك من يمارس النفاق أو على الأقل استمراء داء التطييب والتفخيم والتعظيم رغم كل المتغيرات محلياً وإقليمياً وعالمياً التى أتاحت مساحات أكثر لوصول المعارف والعلوم والثقافات التى تفضح بدورها كل أشكال النفاق والدعوة إلى نبذها بعد رصد مثالبها وبيان نتائج ممارستها. باستثناء التغيير فى أنماط التعبير فلم يعد هناك استخدام الزخارف والمحسنات اللفظية والمبالغات الممجوجة والتكرار الممل حيث حدث توسع هائل فى استخدام أشكال النفاق حتى بتنا نرى كل يوم بدعاً جديدة واستخدامات أكثر فجراً وفجاجة، وفى أوساط ومجتمعات لم نكن نتخيل أن يتخللها هذا السلوك وصرنا نسمع ونشاهد النفاق الإذاعى والتليفزيونى والإلكترونى بداية من محافل وصالونات النخبة وأهل الرأى وحتى مواقع الدرس والبحث العلمى، بل والأخطر فى المؤسسات الدينية .. وللحديث بقية..