رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المسيحى الذى قرأ الفاتحة لأجل الوطن


أكتب عن 25 يناير أخرى من عام 1951، حين اجتمع فى السادسة فجر يوم جمعة عدة ضباط شرطة مصريين فى مبنى المحافظة بمدينة الإسماعيلية، وقرروا أن يواجهوا إلى النهاية قوة من سبعة آلاف جندى إنجليزى مسلحة بالدبابات والمصفحات والمدافع. ولم يكن لدى المصريين سوى بنادق عتيقة وقوة لاتزيد على ثمانمائة عسكرى...

....هذا بعد أن أنذرهم البريجادير أكسهام -قائد القوات البريطانية فى المدينة- بتسليم جميع أسلحتهم والجلاء عن منطقة القناة وإلا قام الانجليز بهدم دار المحافظة والثكنات على من فيها! ولم يكن ذلك مستبعداً فقد قام الإنجليز قبل ذلك بتدمير كفر أحمد عبده بالسويس ونسفوا هناك 156 منزلاً بالكامل وأحرقوها رداً على عمليات الفدائيين. اجتمع الضباط الصغار واتفقوا على ألا يستسلموا وألا يسلموا سلاحهم للإنجليز، وعلى أن يصمدوا حتى الرمق الأخير مهما كانت النتيجة فى معركة غير متكافئة. وكان اليوزباشى «مصطفى رفعت» أكبر ضباط الشرطة رتبة داخل مبنى المحافظة ومعه الملازم أول «عبد المسيح مرقص» فاستدعى زملاءه وشاورهم فأقسموا معه على القتال حتى الموت وألا يسلموا السلاح، وطلب منهم مصطفى رفعت قراءة الفاتحة عهداً على الثبات حتى النهاية. هنا تقدم الملازم عبد المسيح مرقص ووضع يده على أياديهم وقال: لست مسلماً لكنى أقرأ معكم الفاتحة لأجل الوطن! وبدأ الإنجليز قصف مبنى المحافظة وظل الأبطال يردون على النار بالنار، ومع جريان الدماء طالبهم الإنجليز ثانية بالاستسلام فصاح البطل مصطفى رفعت: «لن يستلموا منا إلا جثثا هامدة»! وظلت مجموعة من الرجال الأبطال تقاوم حتى نفدت آخر طلقة وباركوا أرض الإسماعيلية بدماء خمسين شهيداً مصرياً، غير ثمانين من الجرحى، أما من بقى على قيد الحياة فقد أسره الإنجليز. وفى سجل أسماء شهداء 25 يناير 1951ستقرأ أسماء المسلمين جنباً إلى جنب مع المسيحيين: عبد الفتاح عبد النبى من مركز رشيد، وإبراهيم مرقس لويس من إيتاى البارود، وغيرهما، ممن سقوا بالدم شجرة الوطن على امتداد معارك التاريخ المصرى. فى يوليو 1954أشاد جمال عبد الناصر ببطولة تلك المجموعة الأسطورية قائلاً: «كنا نرقب دائماً كيف كان يكافح رجال البوليس العزل من السلاح رجال الإمبراطورية البريطانية المسلحين بأقوى الأسلحة وكيف صمدوا ودافعوا عن شرفهم وشرف الوطن». 25 يناير 1951 كانت حدثاً يرصده عبد الرحمن الرافعى فى «مقدمات ثورة 23 يوليو». حينذاك كان التصدى للاستعمار هو قضية الشعب المركزية التى تتفرع منها المشاكل الأخرى، وكان الوطن مقدماً على كل ماعداه، وكانت الجماهير بعد إلغاء معاهدة 36 فى عام 1951 تجوب الشوارع هاتفة: «نريد السلاح للكفاح»، وأجج الشعور الوطنى كل طبقات الشعب وفئاته، فامتنع عمال السكك الحديدية عن نقل الجنود البريطانيين ورفض العاملون فى الجمارك بذل التسهيلات الجمركية للإنجليز، وأوقف العمال فى الموانئ تفريغ شحنات السفن وانسحب أكثر من ستين ألف عامل من المعسكرات البريطانية وكان العمل فيها كان مصدر رزقهم الوحيد! وأوقف المتعهدون والموردون توريد مواد التموين إلى معسكرات الاحتلال، ونشطت كتائب الفدائيين بقوة، وتطوع ضباط الجيش بتدريب الفدائيين وإمدادهم بالسلاح فى بورسعيد والسويس والإسماعيلية. وجمعت قضية التحرر الوطنى مصر كلها تحت رايتها، وكانت بطولة الإسماعيلية فى 25 يناير أحد مقدمات التحرر والاستقلال. تحية لأبطالنا وشهدائنا وللدماء التى سالت من أجل مصر.