الخرائط تتحرك من حولنا «1»

أكمل القدر مفارقاته وترتيباته فإذا بالثوار البلاشفة بعد نجاح ثورتهم وسيطرتهم على مقاليد الأمور فى روسيا القيصرية وأثناء ترتيب أوضاع الدولة الجديدة تقع تحت أيديهم وثائق وزارة خارجية روسيا القيصرية وكثير من ملفاتها السرية فى ( مدينة بتروجراد )

باقى من الزمن ثلاثة أعوام بالضبط لحلول الذكرى المئوية لأخطر تحريك للخرائط تم فى منطقتنا العربية ونعيش الآن تحت ظلاله إلا قليلا.. ففى الفترة ما بين نوفمبر من العام 1915م وحتى مايو 1916م تم التوصل إلى اتفاقية ( سايكس بيكو ) والتى جاءت بعد مفاوضات وتفاهمات سرية ما بين بريطانيا وفرنسا وبرعاية روسيا القيصرية آنذاك، قام بالجهد الدبلوماسى وإعداد الوثائق لتلك الاتفاقية البريطانى مارك سايكس والفرنسى فرنسوا جورج بيكو مما كان سبباً فى إطلاق إسميهما على الاتفاقية التى كان مخطط لها أن تقبع فى أقصى الأدراج سرية وهكذا كتب على وثائقها وأيضاً» تضمنته خطة تنفيذها بعبارة واضحة «تلتزم جميع أطراف هذه الاتفاقية بنهج السرية الكامله أثناء مرحلة تنفيذ تلك الخطوات وحتى الانتهاء منها ويحظر تداول أى معلومات بشأنها مع من هم خارجها» وقد خص بالذكر طبعاً من سيتم العمل فى أراضيهم من ولاة وأمراء تابعين للدولة العثمانية آنذاك.

و فى اختصار غير مخل نصت هذه الاتفاقية وتفاهماتها السرية على اقتسام منطقة (الهلال الخصيب ) وتحديد مناطق النفوذ فى غرب آسيا بعد تهاوى الإمبراطورية العثمانية وتفكك قبضتها المسيطرة على هذه المنطقة بفعل عوامل التفكك الداخلى وتطور الوضع فى تلك الأماكن من خلال حراك سياسى استقلالى خلق كيانات شبه مستقلة عن التاج العثمانى ولو فى حدها الأدنى على سبيل الإدارة أسرة- محمد على فى مصر على سبيل المثال- وجاءت الحرب العالمية الأولى لتدخل الإمبراطورية فى مرحلة التفكيك الفعلى بفعل ضريبة الحرب الباهظة وبفعل تلقيها ضربات موجعة ممن تآمروا عليها لاقتسام إرثها الثمين.

تم تقسيم الهلال الخصيب بموجب الاتفاق وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من غرب هذا الهلال ( سوريا ولبنان ) ومنطقة الموصل فى العراق .. أما بريطانيا فامتدت مناطق نفوذها بداية من أطراف بلاد الشام الجنوبى إلى الاتجاه شرقاً لتضم ( بغداد والبصرة ) وجميع المناطق الواقعه بين الخليج العربى والمنطقة الفرنسية فى سوريا ( الأردن ) .. كما اتفق أيضاً على أن تخضع ( فلسطين ) لإدارة دولية يتم الاتفاق عليها لاحقاً، مراعاة للأماكن الدينيه بأراضيها والتى تخص الأديان السماوية الثلاثه، ولكن نص فى الاتفاق على منح بريطانيا مينائى حيفا وعكا والسماح لفرنسا بإستخدام ميناء حيفا دون قيود فى مقابل أن تمنح فرنسا نفس الحق لبريطانيا فى استخدام ميناء الإسكندرونة الذى يقع فى منطقة النفوذ الفرنسى .. أما نصيب روسيا القيصرية راعية هذا الاتفاق فكان ضمان حصولها على مساحات واسعة من شرق تركيا والمتاخمة لحدود روسيا القيصرية مما يضمن لها الوصول إلى منطقة تقاطعات الطرق التجارية والمياه الدافئه.

على غير انتظار أو توقع جاء القدر بحادثة فارقة لتفاجئ هؤلاء المتفقين على تركة ( رجل أوروبا المريض- تركيا ) وهى الثورة البلشفية فى روسيا 1917م لتخرج روسيا من الحرب العالمية وبالتبعية من الاتفاقية السرية.. وأكمل القدر مفارقاته وترتيباته فإذا بالثوار البلاشفة بعد نجاح ثورتهم وسيطرتهم على مقاليد الأمور فى روسيا القيصرية وأثناء ترتيب أوضاع الدولة الجديدة تقع تحت أيديهم وثائق وزارة خارجية روسيا القيصرية وكثير من ملفاتها السرية فى ( مدينة بتروجراد ) وإذا بهم أمام كنز هائل من المعلومات والأسرار الدولية التى كان يموج بها العالم فى مرحلة الحرب العالمية الأولى وما حولها وتحت تأثير الزخم الثورى لهم رأوا أن ينشروا تلك الوثائق من أجل فضح الحلفاء والدول الاستعمارية الإمبريالية التى تبادلوا معها العداء فور نجاح ثورتهم .. وكان على رأس تلك الوثائق (اتفاقية سايكس بيكو) التى ترتب أوضاع ما بعد انتهاء الحرب التى لم تكن انتهت فى حينه وفى محاولة منهم للحيلوله دون إتمام تلك الترتيبات أرسلوها إلى الأتراك العثمانيين والذين بدورهم نشروها لفضح المخطط عالمياً.

و لأن الغنيمة كانت شهية للغاية لم يفلح كشف المخطط وإخراجه للعلن فى كبح جماح الدول المتآمرة .. فقد كانت الحرب العالمية الأولى فى أوج أحداثها وكانت الشهوة إلى الاستعمار هى عنوان هذا العصر بامتياز بالإضافة إلى أن كثيراً من ملحقات هذه الاتفاقية والتى كان بعضها فى العلن وبعضها فى الخفاء وبنفس درجة أهمية الاتفاقية بالنسبة لأطرافها ولعل أشهر تلك الملحقات هو ( وعد بلفور ) البريطانى والذى يحمل اسم وزير خارجيتها الخاص بإنشاء وطن قومى لليهود على أرض فلسطين مما جعل بريطانيا فى مرحلة متقدمة من تنفيذ الاتفاق تتجاهل مسألة الإدارة الدولية عليها وتفرض أمراً «واقعا» بإعلان خضوع فلسطين للانتداب البريطانى المباشر !!

و فى عوده للاتفاقيه وما حدث لها بعد هذا الكشف غير المتوقع أسرعت الدول المنتصرة بوضع ما كان سرا مخفياً» وما كان قابعا» فى دهاليز المؤامرة داخل ترتيبات جديدة علنية تكرس ما تم الاتفاق عليه وتهندم حدوده وتضع أنصبته وفق موازين القوى الجديدة بعد انتهاء الحرب .. كان ذلك فى مؤتمر سان ريمو 1920م ومعاهدة لوزان 1923م، ولكن لهذا حديث آخر تفصيلى فقد كان هذا التوقيت فارقاً من حيث بداية تشكل الجنين المسمى الآن بالدول العربية.

حديث طويل ملىء بالمنعطفات والشجون .. لا نمارسه على سبيل الترف الفكرى أو الاسترخاء تحت شموس التاريخ لاكتساب لون جديد لبشرتنا المجهدة، لكن مقتضيات الوقت من حولنا تشير بوضوح إلى أن هناك من يخلع عنا جلودنا التى تيبست وماتت خلاياها الحسية فكان هذا إيذاناً للبدء فى تحريك جديد للخرائط بعد التحريك الأول الذى تم منذ مائة عام والذى أنتج أوطاناً نعيش فيها اليوم .. لكن ما ذكرناه يستهدف الغد وبعد غد ويستهدف الأهم وهو البحث عن أى شمس سيقف تحتها أولادنا.

■ باحث فى العلوم السياسية

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.