رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإدارة الحكومية وحلم الإصلاح


لقد قدمت مصر على مدى التاريخ العديد من النماذج العبقرية فى الإدارة، منها عندما قرر الرئيس جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس، فتأكد لنا قدرة الإنسان المصرى ونجاحه فى صياغة منظومة إدارية ناجحة ونموذجية بداية من مسئولية اتخاذ القرار والعمل وفق رؤية وطنية موضوعية وعلمية، ومجالسة فريق العمل ودعوة كل أصحاب القدرات الإبداعية لطرح أفكارهم...

... والتأكيد على فكرة العمل الجماعى، والاستفادة بفكر وعلم الرواد وأصحاب التجارب الناجحة، ووضع حسابات الربح والخسارة ومدى المخاطرة.. وهل يمكن أن ننسى المنظومة الإدارية الرائعة لإنجاز مشروع مصر العظيم السد العالى، وكيف تم تحديد الأهداف بدقة ووضع برامج زمنية دقيقة للتنفيذ، وحشد كل الطاقات المعنوية عبر رسائل إعلامية رائعة لتعبئة الجماهير وتجهيزها للالتفاف حول حلم تحقيق المشروع الحلم، أما حرب السادس من أكتوبر 1973 فهى النموذج العبقرى الذى قدمه الإنسان المصرى لكل شعوب الدنيا عبر ملحمة أداء تبدى فيها كيف يتم استنفار الطاقات الإبداعية، والتخطيط العلمى والرؤية المتعددة الاتجاهات والحسابات، وتأمين الاحتياجات، والاحتشاد النفسى عبر منظومة أداء إعلامى صادق ومحترف، والأخذ بأسباب العلم فى إدارة المعركة اعتماداً على دراسات دقيقة غير قابلة للفشل.. والمجال لايتسع لسرد دروس أكتوبر العظيمة. فى زمن الرئيس مبارك كان الخبر المنشور التالى بعنوان «‏40‏ مليار جنيه مشتريات حكومية لا تستخدم» والذى كشف فيه الدكتور أحمد درويش، وزير الدولة للتنمية الإدارية، فى تلك الفترة «والذى تم تعيينه مؤخراً رئيساً للهيئة العامة الاقتصادية لقناة السويس باستحقاق لسابق أدواره الناجحة» عن أن قيمة المخزون الحكومى الراكد تتراوح بين‏15‏ و‏40‏ مليار جنيه نتيجة المشتريات التى تم شراؤها دون تخطيط مسبق‏،‏ وقال الوزير إننا بصدد رقم مفزع يجب التعامل مع تبعاته بشكل موضوعى وتضافر كل الهيئات للاستفادة من هذا المخزون وتوجيه القدرالكبير منه إلى مواقع الحاجة إليه‏‏.. إن إدارة هذا المخزون الضخم والاستفادة بجزء كبير منه يتطلب إعداد نظم شراء واضحة يتم بموجبها الشراء وفق قرارات مرشدة لاستيفاء حاجة الوحدات الحكومية دون زيادة قد تشكل رصيداً مالياً راكداً لاجدوى اقتصادية منه، على الجهات المسئولة أيضاً سرعة الانتهاء من وضع لوائح منظمة لعمليات الشراء والتوزيع والتخزين فى أجواء شفافة بهدف تحقيق الانضباط المالى، واجتناب مخاطر التورط فى عمليات يشوبها ألوان من الفساد الإدارى.. ‏يُعد الفساد الإدارى محصلة ومرآة لحالة من التهاون والتراخى والبلادة والإهمال، وأيضاً كنتيجة طبيعية لتراجع نظم فاعلة للإثابة والعقاب بشفافية فى اتخاذ القرار وعدم توافر المعلومات وإتاحتها لكل المتعاملين مع أطراف النظم الإدارية وكل الجهات الرقابية والإعلامية ومواقع التخطيط واتخاذ القرار.. إن انتشار أنواع مختلفة من الفساد فى العديد من القطاعات مع تحديث وتطوير آلياتها الشيطانية يفرض علينا ضرورة المواجهة بحزم حتى يمكن وقف اتساع دوائر حدوث اختراق القوانين والخروج عن الشرعية والتعامل السلبى مع النظم المكتبية والبيروقراطية والأخلاقية والقيمية.. ويُعد من أهم تبعات تفشى مظاهر الفساد الإدارى تراجع معنويات المواطن ووأد أحاسيس الانتماء للمجتمع وكسر حلقة التواصل مع القيادات والنظام.. والأخطر من وجهة نظرى من أهم تبعات انتشار مظاهر الفساد الإدارى هو فقدان الثقة فى مؤسسات الدولة وأجهزتها. إن ما حدث للقطارات والعبّارات ولمسرح بنى سويف وما أثير عن مراكز طبية وبحثية من كوارث وما سطرته الصحف عن مظاهر الفساد فى العديد من القطاعات الحكومية وغيرها من المواقع فى المحليات يثير حالة من التوجس والريبة عند التعامل مع تلك القطاعات الحيوية والاستفادة بخدماتها.. يرى علماء الإدارة والاقتصاد أن الفساد الإدارى يتمثل فى ذلك الفعل الخارج عن أطر القوانين ومحدداتها المنظمة لحياتنا باستهداف تحقيق المصالح والمنافع الخاصة بطرق غير مشروعة واعتداء على حقوق الناس والدولة، فإذا ما أضيف إلى ذلك الإهمال والجهل بالقوانين والتشريعات والعشوائية فى العمل وأحادية اتخاذ القرار والأداء عبر جزر منعزلة وفقدان الرؤية والبوصلة والشفافية فإن الأمور تزداد تعقيداً.. إن الدول التى قررت بإرادة سياسية واعية حازمة التصدى والتعامل مع عوامل ومظاهر ونتائج انتشار الفساد لديهم فى المؤسسات نراها الآن تحصد النتائج الإيجابية بحدوث تنمية اقتصادية واجتماعية وإنسانية بعد أن طال الفساد قدرات الناس الإبداعية والتنافسية وأطفأ بريق أحلامهم بتقليص مساحات طموحاتهم.