رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الخيال» فى زمن القبح


لا شك أن تجديد الخطاب الثقافى بات ضرورة ملحة، بالتوازى مع أهمية تجديد الخطاب الدينى والإعلامى، ونحن نُحارب كأمة وشعب ومنطقة إقليمية محاربة شرسة، وأخيراً نعيش حالة مواجهة مباشرة لمؤامرة دولية قبيحة ورذيلة .. وأعتقد أن وزارة الثقافة بكل أجهزتها ينبغى أن تكون فى مقدمة مؤسسات الدولة الموكول لها وضع الخطط الواضحة المعالم لدعم المعارف الإنسانية والتنويرية فى مواجهة خطابات التخلف والرجعية والانتهازية السياسية والإرهاب الفكرى التى يسهم وجودها فى تعطيل كل جهود التنمية وصناعة التقدم. ولعل من بين تلك الأدوار نشر المفاهيم الجمالية فى زمن بات القبح والتلوث البصرى مشوهاً ـ للأسف ـ للواقع الإنسانى فى مصر ومجتمعاتنا العربية، وعليه ففنون الصورة وتدريب الإدراك البصرى على قراءة جمالياتها ضرورة تفرضها جهود كل من يأملون توفير ما يُطلق عليه «شروط جودة الحياة »..

وعليه، تابعت بكل شغف واحترام إصدار شهرى لوزارة الثقافة «الخيال» ..ولعل المقال الافتتاحى لرئيس تحريرها الفنان التشكيلى « أحمد الجناينى» يؤكد على روعة فحوى ذلك الإصدار المهم، بالإضافة لأناقة الإخراج الفنى وضبط تقنيات الطباعة الذى يناسب بحق رسالة ومضمون إصدار يمثل دعوة رسمية من أسرة تحريرها لاحترام فنون الصورة .. يقول الجناينى مستعرضاً تاريخ الأجهزة الحكومية خلال ما يربو على قرن من الزمان ويخلص للسؤال التالى:

السؤال إذن: لماذا لم تحدث تلك النقلة النوعية فى مجتمعاتنا رغم ما حفظته لنا حضارة السبعة آلاف عام وما تم استحداثه طوال قرن أو يزيد، بينما استثمرت المجتمعات الأوروبية والأمريكية بل وحتى الشرق آسيوية تلك الثقافة ؟ نعم استثمرتها فى معاركها الفكرية والوجدانية والاقتصادية وخطت بها نحو فضاءات العالم مؤسسة شركاتها العابرة للقارات مشكلة بمفردات لغتها البصرية عوالمها الخاصة و«بارودها» الملون.. !!

فهل ندرك أننا رغماً عنها نخوض معارك بلغة باتت تخرج من ظلال متناسلة حسب تعبير «روجيه دوبرى» وأننا أصبحنا ـ بمنطق العصر الآنى نحمل الأمية بداخلنا لأننا مجتمع لا يعرف كيف يقرأ الصورة ؟! ..

فى كتاب للفيلسوف الفرنسى المعاصر «روجيه دوبرى» تحت عنوان «حياة الصورة وموتها.. تاريخ النظرة فى الغرب» وهو عنوان رسالة لنيل درجة الدكتوراه عام 1993 تحدث «روجيه دوبرى» عن علم الوسائط، والمرجعية الفلسفية للصورة، مشيراً إلى ما سماه «تاريخ النظرة» والأدوار والوظائف التى يمكن للصورة أن تلعبها إضافة إلى دورها الجمالى الذى يجعل من الفن درباً من دروب المتعة متجاوزاً بذلك ما أطلق عليه «إيرفن بانوفسكى» «علم الأيقونة» الذى اعتبره مدخلاً أساسياً لدراسة الصورة بوصفها أيقونات ..

لقد استعرض «روجيه دوبرى» دور الصورة ليس فقط من الناحية الجمالية ولكن أيضاً فى الدعاية واقتلاع الثقافات بل وخلق ثقافات جديدة وهو الدور الأساس الذى لعبه الأمريكيون فى صياغتهم للتاريخ عبر إنتاج الأفلام الأمريكية لاسيما تلك التى أرَّخت وتناولت الحرب العالمية بل إنه يؤكد على أن الصورة «عبر السينما» شكَّلت للأمريكان ماضياً ووطناً، وبالتالى لا يمكن تجاهل الدور المضاد الذى يمكن أن تقوم به الصورة فى محاربة هذا الغزو الأمريكى للفضاء البصرى على حد تعبير «دوبرى» ..

وفى مقال نقدى تكتب المبدعة الكاتبة والشاعرة « ماجدة سيدهم» حول معرض لفنان تشكيلى ليبى رائع لنعيش معها حالة رؤية عبقرية للوحاته كدت معها أتصور أن كل الفنانين العرب يصرخون ليتنا ذلك الفنان لتكتب عنا تلك الكاتبة فتضيف وهجاً لتصاويرنا .. تقول سيدهم «وكأن السياق المتفق عليه للتحرر والجمال عند «عمر جهان» يحقق لتلك التجمعات الحماية فى مواجهة عصف المنظومات الرديئة، فالتكتل اللونى هنا يمثل النزوح الحتمى إلى الحياة، هى تجربة إنسانية بارعة البساطة، ذابت فى العمق وروعة الفطرة، حتى تلاشت حدة اللون فى روح المواجهة، لوحات الفنان جهان زاخرة بالتأملات والتفاعلات ما بين كل التناقضات والمفاهيم وابتكاراً لأفضل ..أيضاً تؤكد فطرة اللون عند «جهان» أن ليس ثمة وقت كثير يهدر فى الركض وراء وهم أو انتظار، فالقيمة الإنسانية الحقيقية ليست فى التعايش المهمش، بل فى المواجهة والمرح، اختراق الصعب بالتقاط روح الإنسان الذى فينا، لذا لا بأس من بعض اللعب والثرثرة للتخطى والمضى، فزمن الحياة هو اللحظة الآن، فلنخلص إذاً لها لأنها لنا، هكذا جاءت الألوان ما بين الأبيض والأسود، وأيضاً ما بين وهج الأحمر والأزرق والأصفر، تؤكد بصدق وبساطة شديدة سهولة إمكانية التعايش المثمر مع تعدد الاختلاف والمفردات، وفى هذا تعبير واضح عن مدى الثقة فى النفس والحياة ذاتها، وأنه ليس ثمة مستحيل.. فرحان بالإصدار البديع، وبأمل أن تلحق به جميع إصدارات الوزارة فى عهدها الجديد.