رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قضية التراث


... لا يزال الأزهر يعتبر أن طريقة جمع الحديث وتدوينه بعد مائتى عام من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هى طريقة مقدسة تمت برعاية الله، ويقولون فى ذلك إن الآية الكريمة «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» هى آية خاصة بالقرآن والحديث معاً، لذلك فعندهم أنه لا يجوز التشكيك فى الأحاديث التى رواها البخارى لأن الذى حفظها هو الله لا البخارى.

ولا يزال الأزهر يعتبر أن كتب التفاسير القديمة هى الكتب التى تحتوى على الفهم الحصرى للقرآن، وأن ما قاله الصحابة فى فهمهم للقرآن هو كالوحى المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، كل هذا مدون فى كتب الأزهر التى يتم تدريسها فى المعاهد الأزهرية وفى الجامعات الدينية، ولن تجد فى كتبهم أى دراسة نقدية متأنية لكتب التراث، حيث يتم تدريسها كأنها هى الدين نفسه لا كأنها فهم بعض المسلمين الأوائل للإسلام، وعلماء الأزهر الذين حملهم الرئيس مسئولية التجديد إنما يسايرونه شكلاً حتى لا يتم إسناد أمر التجديد لهيئة أخرى جامعة تتسع كل التخصصات والأفهام . 

الذى أعرفه يا شيوخ الأزهرأن هناك فارقاً بين الإسلام وبين تراث المسلمين، الإسلام مقدس بقرآنه وسنته الصحيحة لا شك فى ذلك، ولكن التراث هو ذلك الذى وصلت إليه عقول بعض المسلمين الأوائل فى فهمها للقرآن والسنة النبوية سواء كانت عملية أو قولية، فإذا انحرف فهم بعض الأوائل لهذه النصوص، أو فهموها وفق ثقافاتهم وخبراتهم وزمنهم وواقعهم الذى يعيشون فيه، فليس معنى هذا أن باقى المسلمين على مدار العصور مجبرون على أن ينتظموا فى نفس هذا الفهم، وإلا لكان معنى هذا أن الله لم يخلق إلا عقلاً واحداً ثم استنسخ منه نسخاً بقدر عدد البشر إلى أن تقوم الساعة! ولذلك فإن التراث قد يلقى تقديرا من المسلمين ومن غير المسلمين بحسب أنه جهد بشرى إبداعى، ولكنه لا ينبغى أبداً أن يلقى تقديساً أو تنزيهاً، هو مجرد صورة من صور ثقافات الأزمنة التى أنتجت هذا التراث، به نستطيع أن نعرف طريقة تفكير المسلمين القدامى وطرق استدلالاتهم، ومدى تأثير ثقافات الحضارات الأخرى فيهم، وكيف نظروا بثقافاتهم هذه للقرآن والنبى صلى الله عليه وسلم، وهل أثرت فيهم ثقافة العرب وهم يكتبون سيرة النبى صلى الله عليه وسلم.

هذا تراث ينبغى أن نستخدمه كمفتاح من مفاتيح فهم ما حدث من قبل لا أن يكون منهجاً نسير عليه فى حاضرنا ومستقبلنا، نستطيع به أن نعرف ما إذا كان الخلاف الذى ظهرت مقدماته بين الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هو خلاف حول أن يتولى شأن الأمة الأصلح لها، أم الأقرب لرسول الله، وهل كانت سقيفة بنى ساعدة ترجمة لخلاف كان مستبطناً فى الضمائر حول أى مدن الجزيرة العربية أقوى وأشد ساعداً وأحق بالفخر، يثرب المدينة المنورة، أم مكة أم القرى؟ حيث كانت عدة مدن تتنازع القوة والسيادة فى الجزيرة العربية هى مكة والمدينة والطائف.

وقد نفهم من التراث أسباب الخلاف المؤلم الذى شجر بين صحابة رسول الله حول الحكم عندما انقسموا بين سيدنا على وسيدنا معاوية، وكيف أن صحابيين بقدرهما يقتتلان بجيوشهما، فنفهم من هذا أنهم بشر يرد عليهم ما يرد على باقى البشر! وقد يذهب بعضنا وهو يدرس هذا التراث إلى أن هذا الخلاف كان دينياً، أو دينياً من ناحية ودنيويا من ناحية أخرى، وقد يذهب آخر إلى أن هذا الخلاف كان فى حقيقته صراعا على السلطة بين بنى أمية الذين كانوا ملوكاً على قريش وأهم أفخاذها، وبين بنى هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد سيدنا على بن أبى طالب، ومن بنى أمية قامت الدولة الأموية، ومن بنى هاشم قامت الدولة العباسية، وإذ نقرأ هذا التراث رغم غرابة بعضه وشذوذه إلا أننا لا يمكن أن نحمل الدين عليه ونقول للناس: إن الإسلام يسمح بكذا أو كذا، لأن ما ورد فيه هو ترجمة لأفكار ناس، وسلوك ناس، وأخلاق ناس، وتاريخ ناس، فالدين لا يُحمل على الناس، ولكن الناس يُحملون على الدين.

ومن ناحية أخرى فإننا لا يمكن أن نُضيف طريقة تفكير المسلمين الأوائل إلى العلم، ولكن نضيفه إلى تاريخ العلم، فلا شك أن ما أبدعوه وقتها كان علماً، ولكنه الآن بمقاييسنا وبما وصلنا إليه من حداثة وعلوم لا يمكن أن نعتبره علماً، فمن قاموا بتفسير القرآن فسروه وفق علوم عصرهم أو الشائع بينهم أو الذى وصل لهم من أصحاب الديانات السابقة، ولكننا الآن إذا قمنا بتفسير القرآن فلا يمكن أن نقف عند من قال إن الأرض ثابتة وإنها مركز الكون وإنها مسطحة، وإن طول الأمم الموغلة فى القدم كان يتجاوز الخمسة أمتار! أو إن إبليس نكح نفسه فأنجب أمته!.

وكذلك علوم الحديث المتعلقة بالسند أو المتن هى مجرد تاريخ للعلم قد ننشده إعجاباً بها ولكننا لا يمكن أبداً أن نعوِّل عليها حالياً بل يجب أن نطورها أو نغيرها، فتلك العلوم ليست منزهة أو مقدسة ولكنها كانت طريقة بشرية ابتكرها المسلمون بعد أكثر من مائتى عام من وفاة الرسول لتوثيق الأحاديث التى رويت عنه، ولكننا حبسنا أنفسنا عند ما ابتدعه الأوائل فلم نبدع لأنفسنا.